حين ينطق القلم

من صافرة الإنذار إلى مكبرات الصوت

بشير شريف البرغوثي
بشير شريف البرغوثي

بشير شريف البرغوثي

 

أنشر هذه السطور الآن قبل ميقاتها حيث كان المفروض أن تصدر ضمن كتاب واحد عنوانه” حديث اليتم و الثورة : أبي و أنا” .. لكن تقاطعات كثيرة في خطوط تجارب المحن تسارع دوران شريط تداعي المعاني في الذاكرة
اتنهى حزيران الأسود 1967 و تبخرت معه أحلامنا بتحرير فلسطين و اللعب على شاطيء يافا و التنزه في شارع العجمي و مشاهدة سوق اسكندر عوض كما كان يحدثنا عنها أبي ..
و بحلول شهرتموز زادت سرعة تبخر الأحلام و تبخر الأمل باستعادة الضفة الغربية
كنا نعيش على جبل عمان .. و لا أدري لماذا كان الشارع يسمى شارع المطران ربما لوجود مدرسة المطران فيه .
كانت مدرسة المطران مميزة بأسوارها الجميلة و مبناها الجميل و بحديث الناس عن تفوق طلابها , و كنت أحلم بالإنتقال إليها من مدرسة مهد العلوم الخاصة التي كنت أدرس فيها ..
مدرسة مهد العلوم كانت عبارة عن شقة على درج في شارع الحاووز حيث خزان الماء الكبير الذي كان يدهشنا بعلوه و بالحديقة الصغيرة المحيطة به .
و كانت المدرسة عبارة عن مشروع فردي لمعلمة أردنية طموحة اسمها نازك القسوس .. لا أزال أذكرها و أحتفظ بشهاداتها – دون سائر الوثائق الأخرى
الست نازك كانت تعتبر أما أو أختا كبيرة لطلابها و كانت تدرسني مادة اللغة الإنجليزية و الدين الإسلامي .. و لم يكن أولياء الأمور ليستغربوا من كون مدرسة مسيحية تدرس أطفالهم التربية الإسلامية
الست نازك كانت تبدو كراهبة في دير للعلم .. تضع للواحد منا كرسيا كي يصل إلى المايكريفون و يلقي كلمة الصباح و توزع علينا “الويفرز” في وقت الإستراحة بالتساوي حتى لا يتميز طالب عن طالب
أخبرتنا يوما أن زميلا لنا مريض و أن مرضه غير معد و أنها ستأخذنا جميعا !!! إلى بيته كي نعوده
من أين امتلكت تلك السيدة العظيمة روح المبادرة و التضحية بمواردها و جهدها كي تقود مشروعا كهذا ؟ لم تكن هناك حوافز و لا صناديق إقراض و لا جهات داعمة .. لكن الإرادة كانت فولاذية تشع من وراء تلك النظارات الرقيقة
بعد سنوات قليلة كان لا بد أن أغادر مدرسة الست نازك التي كان أخي الأكبر يحملني إليها أحيانا على ظهره عندما أتكاسل عن المشي من البيت إلى المدرسة .. كنت دون السن القانوني الذي يسمح بدخول الطالب إلى مدارس حكومية و أصر أخي على أن لا يفوت علي سنة دراسية و سجلني عند الست نازك كمدرسة خاصة
لكنني لم أنتقل إلى مدرسة المطران بل إلى مدرسة حكومية هي مدرسة شكري شعشاعة .. و على الرغم من صرامة الأستاذ زاش و الكيالي إلا أن معلمين آخرين كانوا من طراز مختلف .. كان الشيخ محمد أبو شوشة من قراء القرآن المعدودين و كان يعلمنا التربية الإسلامية و التجويد و الموسيقى معا !
و أيضا لم يكن أحد ليعجب من جمع حصة الدين الإسلامي و الموسيقى معا .. بل كان أبي مولعا جدا بأغاني عبد الوهاب و أسمهان و وديع الصافي .. و كان يقول إن الموسيقى تنعش الروح و تجعلها تتزن فينهض الإنسان أو ينام ..
و لم يكن هناك مجال لعقد مجالس أولياء الأمور لكن المدير زريقات كان يجلس أمام هذه الدكانة أو تلك على كرسي قش باب دكانة لويس أو على دكة الإسمنت أمام باب دكانة فواز أبو أحمد و هناك يتحدث مع أولياء الأمور عن أحوال طلابه بالتفصيل و عن التبرعات المدرسية و عن مشاغبات الطلاب بعد الدوام
أي إخلاص كان لدى أولئك العمالقة ؟
كان أقل صف يضم خمسين طالبا و أكثر .. يضيق بهم المكان و لكن صدور المعلمين تتسع لهم جميعا أثناء ساعات الدوام و بعد ساعات الدوام .. بعضهم كان يعطينا حصص التقوية في منزله أو نذهب إليه كي يساعدنا في حل الوظائف المنزلية ..
من أين كنت سأدري أن حرب حزيران ستخرجني من مدرسة شعشاعة و أني لن أعود إليها إلى الأبد في رحلة امتدت من صافرة الإنذار في عمان إلى مخيم غور النمرين و من ثم إلى مكبرات الصوت على عربات الإحتلال العسكرية ..
من محنة إلى أخرى .. تمر المحن بنا أو نمر بها لكننا نتجاوزها دائما بنفس الكلمات : الإرادة و المحبة و التعاضد . كلمات المرور التي إن نسيناها فلن نتمكن من الدخول إلى حساباتنا في صفحات الحياة

بشير شريف البرغوثي

بدأ الكاتب بشير شريف البرغوثي حياته المهنية مترجما و محللاً سياسياً و باحثاً في دار الجليل للنشر و الدراسات و الأبحاث الفلسطينية في العاصمة الأردنية عمان و خلال الفترة من سنة 1984-1989 صدرت له عن تلك الدار عدة كتب و أبحاث باسمه أو باسم الدار و تميزت كلها بالريادة و استشراف الأحداث و كان كتاب " إسرائيل عسكر و سلاح " سنة 1984 أول من أوائل الدراسات العربية حول خطورة تمدد المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي في العالم. و في سنة 1986 أصدر أول دراسة شاملة عن تأثير المياه في الصراع العربي الصهيوني بعنوان " المطامع الإسرائيلية في مياه فلسطين و الدول العربية المجاورة و قد ظل هذا الكتاب سنوات طويلة مرجعا أساسيا لكثير من الدراسات و الدارسين و الساسة , و قد تنبأ فيه إلى أهمية مطالبة الفلسطينيين بتعويضات عن الاستغلال الإسرائيلي لمياههم و مواردهم الطبيعية فور ان تسنح أية بادرة تفاوض !

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم و رحمة الله و بعد،.
    بوركت كإنسان يحمل هم شعبه و يدافع عنه بقلمه وفكره و يرفع صوته متحيا الاحتلال و اعوانه من الزمر المتساقطة في وحل الخضوع و الاستسلام، شكرا لك على ما تتحفنا به و ان كانت الهموم و الآلام تجمعنا و لكن ارجو ان يجمعنا الأمل بأن القادم خير بإذن الله، دمتم يراعاحرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *