أقلام الوطن

حقيقة ما يجري في سوريا ولسوريا

بقلم : د. لبيب قمحاوي*

             البكاء والعويل لن ينفع تماماً كما أن الغضب الصامت أو المدوي لن يُجدي مثلما أن جنوح البعض إلى إسقاط قناعاتهم أو أمانيهم الشخصية على حقائق الأمور فإنه لن يغير من واقعها شيئاً ، بقدر ما قد يقود ذلك الإسقاط إلى إستنتاجات خاطئة وإنتصارات وهمية .

            يمر العرب الآن بحقبة من الإحباط والقهر المكبوت أساسها عدم القدرة على التأثير في مجرى الأحداث وفيما يجري لهم وكأن الأمر مفروض بِقـَدَرِيَّةٍ لا قُدْرَةَ لأحد على مقاومتها ، وهو بالطبع استنتاج خاطئ . فما يجري للعرب وما يمرون به من مآسٍ إنما هو من صنع أياديهم أو نتيجة لفشلهم في تغيير مسار الأمور ووضع حد للإجرام والفساد والمعاصي التي يرتكبها حكامهم إلى الحد الذي إنهارت فيه الأوطان على من فيها .

         الوصف الدارج لسوريا بأنها “قلب العروبة النابض” أمر صحيح تاريخياً . فسوريا هي الأم الطبيعية لدول بلاد الشام ، وكل دولة في ذلك الإقليم تشعر بأن سوريا هي الرحم الذي خرجت منه . ومحاولة البعض شيطنة سوريا أو الدور السوري لن يغير من هذا الواقع شيئاً . وسقوط سوريا في براثن حكم دموي لن يغير أيضاً من هذه الحقيقة . فبالرغم عن الجهة أو الشخص الذي يحكم سوريا أو كيف يحكمها ، فإن سوريا تبقى سوريا وتبقى هي رحم العروبة . وإذا ما أصابت أو أخطأت فمن الخطأ المطالبة بعقابها بالقتل والموت الزؤام ، بل على الجميع العمل على تصحيح المسار أو المساعدة على تصحيحه مبتعدين عن أساليب القتل والتدمير التي لا يمكن تبريرها مهما كان السبب .

        لا أحد يريد إبراء ذمة النظام السوري من جريمة سفك دماء الشعب وتدمير البلد إستجابة لأنانية الحكم . ولكن العقاب لا يكون من خلال التعاون مع الأجنبي ومع العدو المعلن والخفي ، ولا من خلال السماح للآخرين بإستباحة الوطن السوري . فالجميع مخطئ في موقفه ذاك خصوصاً وان النتيجة واحدة في كل الأحوال وهي وَبَال على سوريا وعلى الشعب السوري .

       إن ما وصل إليه الحال الآن في سوريا من تدمير وقتل وتشريد أمراً يبعث على الحزن والغضب خصوصاً وأن هذه النتيجة هي في أصولها من صنع عربي . سوريا الآن وطن مُدَمَّر وشعبه إما مقتولاً أو مشرداً أو ينتظر . وأرضه وسماءه ومياهه مستباحة لكل أجنبي من كل حدب وصوب ، ودم الجريمة يقع على كاهل الجميع سواء بسواء . ولكن مغالاة البعض في لعب أدوار الخيانة وتسهيل مرور الأعذار لتبرير مزيد من العدوان على سوريا هو أمر يجب التوقف عنده وإدانته بلغة مباشرة لأن سوريا ، في نهاية المطاف ، أهم من النظام الذي يحكمها ، وسلامة وإستقلال ووحدة ورخاء سوريا هو الهدف الذي يجب أن ينشده جميع العرب وإلا أصبحو أنفسهم جزأً من أدوات الجريمة .

      إن غضب الاسلاميين على النظام السوري مثلاً يجب أن لا ينسحب على سوريا نفسها . فحماية وحدة أراضي واستقلال وإستقرار سوريا يبقى هدفاً أسمى من تأييد نظام الحكم أو العداء له . وموقف الاسلاميين المعادي لسوريا الآن يلتقي مع الموقف الأمريكي والغربي والاسرائيلي والسعودي ، فكيف يتم تفسير ذلك إسلامياً ؟ إن الفصل في العداء بين العداء للنظام الحاكم وبين الوطن السوري والشعب السوري يصبح أمراً هاماً لخلق معادلة سياسية سليمة ومتوازنة تـَفْصِلُ بين الموقف من نظام الحكم وبين الوطن السوري .

          أخطأ النظام السوري في جهوده وسعيه لإنقاذ نفسه من خلال إغراق سوريا في المستنقع الروسي . وأخطأت القوى المعارضة للنظام بالتحالف مع أمريكا والغرب وعرب النفط وجميعهم حلفاء لإسرائيل في معركتهم ضد النظام الحاكم في سوريا . وهذا الوضع قد أدى بالنتيجة إلى استباحة السيادة السورية والأرض السورية من كافة الأطراف تحت عذر مكافحة الإرهاب أو التخلص من نظام الأسد الحاكم أو حماية المصالح الوطنية لهذه الدولة الاقليمية أو تلك سواء أكانت تلك الدولة تركيا أم إيران أم السعودية .

       إن الدموية والتوحش الذي صبغ الأزمة السورية لم يقتصر على النظام بل شمل أيضاً المعارضة وكذلك الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذلك . وتحول الصراع في سوريا من صراع سوري داخلي إلى صراع إقليمي لينتهي الوضع إلى ما هو عليه الآن ساحة مُباحة ومستباحة للصراع الدولي بالإضافة إلى الصراعين الداخلي والإقليمي . وهكذا ، تحول الصراع إلى صراع محلي إقليمي دولي مُرَكَّبْ يشمل الجيوش والمليشيات ، وأصبحت المشكلة الآن ليست في إنهاء الصراع في سوريا فقط ، ولكن في القدرة على حصره داخل حدود سوريا الدولية ومنع إنتشاره أو إمتداد آثاره إلى الأقطار المجاورة خصوصاً لبنان والأردن .

          ما هي حقيقة ما يجري الآن في سوريا ولسوريا ؟

          المعركة الآن في سوريا هي صراع سياسي مباشر وعسكري غير مباشر بين روسيا وأمريكا . التواجد العسكري الروسي المباشر إبتدأ بحذر وكانت روسيا تتلمس مواقع أقدامها داخلياً وضمن حسابات القوى المحلية المتصارعة التي كانت في حينها تميل بشكل واضح لصالح القوى المعارضة للنظام . وكانت الاستراتيجية الروسية في ذلك الحين تسعى إلى تثبيت أقدامها في سوريا من خلال تثبيت أقدام النظام ، وهكذا كان. وقد تبع ذلك تثبيت أقدام الوجود الروسي من خلال القاعدتين العسكريتين في الحميميم و طرطوس . ولم يكن لروسيا في ذلك الحين سياسة ثابتة فيما يتعلق بمستقبل سوريا وبقائها موحدة أو تقسيمها . وجاء تدخل أمريكا وقوى التحالف الغربي لمكافحة الإرهاب فرصة ذهبية لإعطاء الروس المجال لإضعاف المعارضة تحت ستار محاربة الإرهاب وتم مد النفوذ الروسي داخل سوريا من خلال مد نفوذ النظام السوري نفسه، إذ إعتمدت روسيا في تواجدها على الأرض السورية على دعم الشرعية لذلك التواجد وبالطبع دعمها للشرعية ممثلة في نظام حكم الأسد .

        لقد شكلت سلبية ولامبالاة إدارة أوباما في آخر أيامها فرصة أمام الروس لزيادة تداخلهم في ديناميكية الصراع من خلال التعاون مع حزب الله وإيران وبالتالي تم بسط نفوذهم على رقعة متزايدة من الأرض السورية . وهنا يجب أن نفهم أن الدور الروسي كان من ذلك المنظور إيجابياً في حين كان الدور الأمريكي والغربي والعربي النفطي دوراً تخريبياً لأنه كان يهدف إلى قلع النظام بأي وسيلة حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سوريا وقتل وتشريد الشعب السوري .

         وابتدأت الشهية الروسية تنمو مع نمو نفوذها داخل سوريا واستعادة النظام لقوته تدريجياً . وهكذا أصبح الحفاظ على وحدة الأراضي السورية تحت النفوذ الروسي سياسة روسية واضحة . ولكن هذه السياسة كانت تفترض عدم وجود آخرين وخصوصاً أمريكا بعد أن وصل بيوتين ونيتنياهو إلى اتفاق مباشر على التعاون معاً ضمن معادلة تحمي المصالح الأمنية الاسرائيلية في سوريا تحت النفوذ والإشراف الروسي المباشر .

         الدور الأمريكي اللامبالي في نهاية عهد أوباما لم يجئ تعففاً بقدر ما كان إنعكاساً للتغيير في أولويات أمريكا وعدم رغبتها في العودة إلى مستنقع الشرق الأوسط خصوصاً بعد تجربتها المرّة في العراق . فالإهتمام الاستراتيجي الأمريكي ابتدأ في التحول إلى آسيا والشرق الأقصى والصين والهند كبديل للشرق الوسط . وكان مجئ إدارة ترمب الفوضوية وسعيها في البداية إلى حصر دورها في سوريا بمكافحة الإرهاب وداعش كمعركة استباقية لحماية مصالح أمريكا في مناطق أخرى مؤشراً لروسيا على امكانية الانفراد بسوريا كاملة موحدة تحت النفوذ الروسي . ولكن المصالح الأمريكية داخل مؤسسة الحكم في أمريكا لم تقبل بذلك خصوصاً بعد أن صَرَّحَ ترمب مؤخراً وبشكل مفاجئ عن قرب مغادرة القوات الأمريكية لسوريا ، وكان لا بد من إعادة خلط الأوراق لإعطاء أمريكا العذر للعودة وبقوة إلى الساحة السورية لمنع انفراد روسيا بها.

        ما نشهده الآن هي محاولة لإعادة ترتيب الأمور على الساحة السورية بشكل يمنع روسيا من الانفراد بالنفوذ في سوريا بالإضافة إلى إستعمال الأرض السورية لتصفية حسابات اقليمية أخرى تشمل إيران وقد تشمل تركيا . وفي هذا السياق ، يشكل العداء الاسرائيلي – السعودي – الأمريكي لإيران سبباً إضافياً لعدم ترك الساحة السورية ولتصفية الحسابات مع إيران على الأرض السورية. وهذا يعني ، بالضرورة، شمول حزب الله بإعتباره جزأً من الإمتداد الإيراني في المنطقة . وهكذا فإن الأمريكيين والإسرائيليين والسعوديين يريدون خوض معاركهم مع إيران في سوريا دون المخاطرة بفعل ذلك على الأرض الإيرانية الشاسعة والمكتظة ، ودون أي إعتبار للمصالح السورية أو الفلسطينية أو العربية .

         الآن وقد إنتهت الضربة العسكرية الأمريكية- الغربية لسوريا وأصبحت قوتها وشموليتها أمرين معرفين ، فإن التركيز يجب أن يَنْصَبّْ على سبر غور ومعرفة الأهداف الحقيقية وراء الضربة . فالضربة العسكرية قد تكون هامة بالنسبة لأمريكا كمدخل لإعادة تكريس وجودها ودورها في سوريا ، ولكن ما بعد الضربة هو الأهم لجميع الأطراف . فإنتهاء الضربة العسكرية سوف تؤشر على بدء الحرب الاعلامية والحرب السياسية ولكن دائماً ضمن حدود متفق عليها بين الأطراف الرئيسية. وقد نشاهد توجهاً روسياً معلناً لتزويد سوريا بأسلحة دفاعية صاروخية جديدة لتعزيز قدرات النظام السوري للدفاع ضد ضربات مستقبلية محتملة دون الحاجة إلى تدخل روسيا المباشر . وهذا التصعيد قد يكون أهم نتيجة عسكرية للضربة الأمريكية – الغربية الأخيرة . إن فرض مسار جديد من خلال إعادة ترتيب العلاقة بين أمريكا وروسيا على الأرض السورية لن يمر دون مقاومة من روسيا ولكن ليس إلى حد الصدام العسكري المباشر مع أمريكا . فالصدام سيقتصر على الصدام السياسي . وإذا ما نجحت أمريكا من خلال عملياتها الأخيرة في فرض إستمرار تواجد أمريكي دائم أو متواصل في المدى المنظور على الأرض السورية فإن ذلك سوف يعني عملياً التقسيم الذي إذا ما حصل سيكون على شكل مناطق نفوذ مماثلة للوضع الذي كان سائداً في برلين بعد الحرب العالمية الثانية ، ولن يكون على شكل دويلات صغيرة . أما إذا رغبت أمريكا في البقاء وفشلت في مسعاها لأي سبب ، أو قررت الانسحاب طوعاً من سوريا ، فإن سوريا ستبقى موحدة ولكن تحت النفوذ الروسي المباشر .

         وأخيراً ، فإن ما يجري الآن في سوريا لم يعد صراعاً سورياً – سورياً أو سورياً – عربياً أو سورياً – إسرائيلياً أو سوريا – أمريكياً ، بل هو صراع أمريكي – روسي على الأرض السورية وليس من أجلها ، بل من أجل إستعمارها جزئياً أو كلياً ، ومن أجل إستعمالها لبسط النفوذ على دول الجوار ، أو لإعادة هيكلة الإقليم  الشرق – أوسطي مجدداً .

 

2018 / 04 / 15   

[email protected]

كاتب

د. لبيب قمحاوي

* مفكر وسياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *