تحاليل و تقارير ساخنه

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي ( الحلقة الرابعة )

د. خير الدين عبد الرحمن

عندما علمت أن ملك المغرب الحسن الثاني قد دعا كل الملوك والرؤساء العرب إلى الاصطفاف في المطار لاستقبال ياسر عرفات لدى وصوله إلى فاس ، فالتزم الجميع عدا الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس اللبناني الياس سركيس ، إذ قيل أنهما سيكونان مجتمعين معاً في تلك الساعة بناء على ترتيب مسبق ، وعندما سمعت الملك السعودي فهد يقول لأبي عمار وهو يقبله في المطار : ( رفعت راس العرب كلهم ) ، أدركت أن العلاقة مع سوريا سوف تتأزم ، وأن ما سميت مبادرة فهد للتسوية بين الدول العربية والكيان الصهيوني سوف يتم تمريرها بسهولة ، خلافاً لما واجهها من معارضة عطلت تمريرها في قمة العام السابق . تعززت قناعتي بأن ما جرى في الأردن ولبنان وسائر المنطقة من حروب ومجازر واستشراء حالات شقاق عربي ـ عربي يمهد لتطبيق برامج وخطط وضعتها مراكز أبحاث ودراسات ومجموعات صهيونية وأمريكية ، توّجها مشروع برنارد لويس الذي اعتمدته وزارة الدفاع الأمريكية ضمن خطتها الدفاعية التي أقرها الكونغرس في العام 1981 متضمناً إعادة تقسيم دول المنطقة وتدمير بنيتها القيمية والثقافية والمجتمعية لإعادة تشكيلها وفقاً لمنظومة القيم الغربية ، وإلغاء الرابط العربي وسحب العروبة من التداول ، وفرض مفهوم جديد للإسلام . كل هذا من أجل إدخال الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة وتنصيبه سيداً لها وضمان أمنه على نحو مطلق.
كما أعدت قراءة مشاهد مستقبلية نشرتها مجلات استراتيجية وعسكرية أمريكية تحدثت عن حرب تخوضها القوات الأمريكية مطلع التسعينيات في منطقة الخليج بأسلحة فائقة الحداثة والتدمير لم تستخدم في أي حرب سابقة ، وحددت أن هدف هذه الحرب المباشر هو تحطيم قوة الطرف الذي يخرج منتصراً من الحرب العراقية ـ الإيرانية التي اندلعت قبل سنة أو محتفظاً بجزء كبير من قوته ، من أجل ضمان أمن الكيان الصهيوني والسيطرة المباشرة على نفط المنطقة . أكثر من هذا ، لقد حددت تلك الدراسات التي أشرت إليها لاحقاً في بعض كتبي ودراساتي المنشورة موعد هذه الحرب وأسلحتها وقالت أن جيوش دول حليفة سوف تخوضها تحت قيادة القوات الأمريكية ، وأن دول المنطقة المنتجة للنفط سوف تمولها !
استعدت آنذاك ما عانته الثورة الفلسطينية من هزات وانشقاقات عقب خروج قواتها من الأردن ، وتوقعت أن يؤدي تكرار خروجها من لبنان هذه المرة إلى هزات وانشقاقات أعمق وأخطر بكثير ، ففي المرة السابقة ظلت لها قوات ترابط على مشارف فلسطيننا المغتصبة وتواصل الكفاح المسلح ضد العدو من سوريا ولبنان، أما بعد الخروج من لبنان فلن تكون لهذه القوات فعالية قتالية في منافي تونس والجزائر واليمن والسودان ، ولن يكون لما أسميناه (القرار الفلسطيني المستقل ) فرصة استخدام ما تموضع من هذه القوات في سوريا والعراق .
لقد استاءت القيادة السورية كثيراً من مغادرة ياسر عرفات لبنان إلى اليونان بدلاً من سوريا في إعلان صاخب عن أزمة في العلاقات تطورت لاحقاً إلى حد طلب مغادرة عرفات سوريا فوراً . لم تكن تلك أول الأزمات وإنما كانت أخطرها وأشدها استعصاء على التسوية . حدثت أزمة عندما اعتقل عرفات وخليل الوزير وقادة فتح الآخرين إثر مقتل النقيب يوسف عرابي والملازم محمد حشمة في أيار 1966 في مكتب الحركة بدمشق ، لكن الأزمة التي كانت تهدد حياة هؤلاء القادة جدياً تمت تسويتها بتفاهم مع الفريق حافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع . حدثت أزمة أخرى أقل صخباً بعد الانقلاب الهادئ الذي قاده الأسد في 16 تشرين الأول 1970 ، بعد أيام من القمة العربية التي انتهت إلى اتفاق بإشراف الرئيس المصري جمال عبد الناصر قبل ساعات من وفاته قضى بخروج الفدائيين الفلسطينيين من عمان ثم انتهى بخروجهم من الأردن كله ، ساحتهم الطبيعية الرئيسة . كان الخلاف الداخلي في القيادة السورية بشأن التدخل لدعم الثورة الفلسطينية في قتالها مع الجيش الأردني القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت مع عوامل أخرى عديدة إلى انقلاب الأسد الذي كان قد رفض توفير غطاء جوي للواء السبعين المدرع ، أقوى ألوية الجيش السوري آنذاك ، عندما قرر صلاح جديد ومعظم أعضاء القيادة السورية دخوله شمال الأردن دعماً للثورة الفلسطينية ، فلم يكن سلاح الجو السوري في تقدير الأسد قادراً آنذاك على مواجهة الطيران الإسرائيلي الذي شكل بتنسيق مع الولايات المتحدة مظلة جوية جاهزة لمنع انتصار الثورة الفلسطينية ، إضافة إلى استنفار القواعد العسكرية الأمريكية في أوربا والمنطقة للتدخل أيضاً بقرار معلن من الرئيس ريتشارد نيكسون ، وهكذا تعرض اللواء السبعون إلى خسائر فادحة . بعد التحاق لواء الحسين في الجيش الأردني بقيادة الشهيد سعد صايل بحركة فتح في أيلول 1970وتمركزه في سوريا، وتدفق آلاف الفدائيين والمناضلين لاحقاً إلى سوريا من الأردن على امتداد العام 1971 قررت القيادة السورية تنظيم تواجدهم. كان يمكن التفاهم على هذا مع القيادة الفلسطينية بحكم توافق الطرفين السياسي ، لكن مذكرة أصدرها حكمت الشهابي آنذاك ، الذي تولى لاحقاً رئاسة أركان الجيش السوري ، قد شكلت صدمة كبيرة للقيادة الفلسطينية إذ تضمنت منع الفدائيين من القيام بعمليات عبر خطوط وقف النار إلا بموجب تصريح خطي من رئاسة الأركان السورية ، ومنعهم من حمل السلاح أو ارتداء ملابس عسكرية خارج معسكراتهم وقواعدهم والعديد من الممنوعات الأخرى التي اختتمت بمنع إلصاق الملصقات على جدران المدن للمحافظة على نظافتها .. كان ذلك البند شديد الوطأة عاطفياً ، فظل ياسر عرفات يعبر عن مرارته إزاءه بتكرار القول : ملصقاتنا الوحيدة هي نعي شهدائنا فهل صارت صور شهدائنا توسخ الجدران ؟ ثم أصدر تعليماته برحيل أكبر عدد من الفدائيين من سوريا وتمركزهم في العرقوب وجنوب لبنان ، مكرراً عبارة تعكس مرارة شديدة بقوله : ثلوج جبل الشيخ أدفأ من قلوب بعض العرب !
هل نبتعد إن عدنا لثلاث سوات وقرأنا رسالة ملك السعودية فيصل إلى الملك حسين المؤرخة في 3 كانون الثانى (يناير) 1969 م الموافق 14 شوال 1388 ه والموثقة برقم 421 ضمن وثائق مجلس الوزراء السعودى: ”
صاحب الجلالة الملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية ، حفظه الله
يا صاحب الجلالة، سبق لي أن تحدثت لجلالتكم – كشقيق يسره ما يسركم ويضره ما يضركم – عن الحالة التي وصل إليها الأردن الشقيق ، بوجود ما يسمى ( المقاومة الفلسطينية ) ، وأفصحت لجلالتكم عن يقيني القاطع أن هذه ( المقاومة ) سوف تستغل ضدكم وتتحول من اسمها الظاهري ( مقاومة فلسطينية ) إلى ( مقاومة ) ضدكم وضد شعبكم إن أنتم تهاونتم بترك حبالها على الغوارب. والآن وبعد أن أتضح لجلالتكم أمرها جليا،فإنه لا يسعني إلا أن أكرر نصحي للاستفادة من هذا الوقت السانح لجلالتكم بمبادرة القضاء المبرم على هذه ( المقاومة )، فبادروا أيها الأخ العظيم قبل أن يحدث ما نتوقعه بين يوم و أخر ، وما نخشى عقباه باستبدال حكمكم لا قدر الله ، بحكم هذه ( المقاومة الفلسطينية ) ، ومن ثم يأتي دورنا نحن ، حين يتحول الأردن من دولة شقيقة إلى وبال ثورة علينا ، فننشغل بمحاربة ثورتين شيوعيتين ، واحدة فى جنوب مملكتنا والأخرى في شمالها ، حيث يصبح الأردن الشقيق كالجنوب المسمى باليمن الديمقراطي ، والذي لم نزل نتعاون و إياكم في مكافحة من أفسدوه ، فإن لم يصبح الأردن دولة شيوعية بانتصار المقاومة ( لا قدر الله ) ، فإنه سيصبح بالتأكيد ولا محالة دولة ناصرية أو بعثية أو قومية ، وكل هذه التسميات وإن اختلفت مجاريها ، فإنها تصب في قعر بؤرة واحدة ، هي بؤرة الهدم ضدنا ، وضد أصدقائنا الأمريكان والإنكليز وأنصار النظام الغربي ، لذلك فإنني أعرض مجدداً على جلالتكم – كشقيق لكم – رأينا النهائي ورغبتنا الملحة ، بالقضاء على كل هذه الزمر المفسدة المجتمعة في الأردن باسم ( مقاومة إسرائيل ) ، بينما – يشهد الله – أن شر إسرائيل لا وجود له ، أمام شرور تلك الزمر المفسدة. وبهذه الرسالة ، ما أردنا إلا تكرار عرض خدماتنا لجلالتكم بتحمل كافة المصروفات ، وما ستتكلفونه من مال وسلاح وذخيرة في سبيل مقاومة ( المقاومة) وإلا فإنني وأسرتي الصديقة التي ترى في هذا الرأي وتقره كما تعلمون ، سننضم جميعا ضدكم ، لنشكل الطرف الأخر لمقاومتكم ومقاومة هذه ( المقاومة ) غير الشريفة لأننا بذلك لا ندافع عن كيانكم فقط ، بل عن كياننا أيضا . وبانتظار الرد من جلالتكم ، أدعو الله أن يحميكم من كل مكروه وأن يأخذ بيدنا لإحباط كل ما يحيط بنا من أخطار المفسدين الملحدين .
أخوكم المخلص فيصل بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية
( نص الرسالة في : حمدان حمدان ، عقود من الخيبات ، الطبعة الأولى 1995 ، دار بيسان ، بيروت ، ص 535- 537 )
لا يجادل أحد في الحاجة إلى ترتيب العلاقة بين حلفاء ومراجعتها بين حين وآخر بما يحترم مصالح الطرفين ويراعي أوضاعهما، لكن لهجة تلك مذكرة حكمت الشهابي كانت غريبة عما تأسست عليه علاقة فتح بسوريا .. كذلك كانت عجرفة عبد الحليم خدام وإساءاته وتقلباته طوال توليه الملفين السوري واللبناني . ولئن اكتشفت الكثير عن ارتباط هذين بالذات ، سواء في حديث سعود الفيصل لي في مطلع العام 1980عن العلاقة الخفية مع خدام ، أو في تأكيد أبي لطف لي قبل ذلك بأن خدام واحد من ثلاثة وزراء خارجية دول عربية مهمة آنذاك مرتبطين بالمخابرات المركزية الأمريكية ، وصولاً إلى مقابلة تلفزيونية مطولة مع خدام في منفاه بباريس قال فيها بوقاحة أنه يتمنى أن تتدخل إسرائيل عسكرياً للمساعدة في إسقاط النظام الحاكم في بلاده ، الذي كان هو من أبرز أركان الفساد فيه لعشرات السنين . أما حكمت الشهابي ، فأتجاوز ما نشر عن ثروته الهائلة في الولايات المتحدة التي عاش باقي عمره فيها بعد تقاعده ، إنما أقف عند مقابلة متلفزة لمصطفى طلاس قال فيها أن الاتحاد السوفييتي رفض بيع أسلحة متطورة لسوريا عندما ذهب حكمت الشهابي يطلبها ، وأن السوفييت أبلغوا طلاس بأنهم لا يثقون بحكمت الشهابي إذ لديهم دلائل قاطعة عن ارتباطه بالمخابرات الأمريكية ، وعندما سئل طلاس عما إذا كان قد أبلغ الرئيس حافظ الأسد بهذا التقييم السوفييتي أكد أن الرئيس كان يعرف عن ارتباط الشهابي ، لكنه كان حريصاً على إبقاء قنوات مفتوحة مع الولايات المتحدة على الرغم من عداوتها .
جاءت تلك الأزمة الصامتة نسبياً وسواها لاحقاً نقيضاً لوقائع سابقة شكلت جوهر الموقف الإيجابي السوري ، فمثلاً كان لإغلاق الحدود مع لبنان لدى نشوب القتال بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين في العام 1969 الدور الحاسم ـ إضافة إلى تدخل الرئيس المصري عبد الناصر ـ في اضطرار الحكومة اللبنانية إلى عقد اتفاق القاهرة الذي وقعه ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني إميل البستاني وأقره المجلس النيابي دون أن يطلع على نصه ، وبموجبه صار وجود قوات الفدائيين ومؤسسات الثورة الفلسطينية شرعياً في لبنان ، فلبنان لا يتحمل إغلاق سوريا الحدود التي تشكل منفذه البري الوحيد إلى العالم . كما أن سوريا شكلت تاريخياً رئة الثورة الفلسطينية وطريق إمدادها بالسلاح ، ومقرها الآمن .
أشير هنا إلى واقعة كنت طرفاً فيها قبل شهور من تلك الأزمة . فبعد أسبوعين من تولي الفريق حافظ الأسد رئاسة الحكومة عقب انقلابه وتعيينه أحمد الخطيب نقيب المعلمين رئيساً مؤقتاً للدولة لستة أشهر إلى أن يجري استفتاء على تولي الأسد الرئاسة ، غادرت مكتبي في التعبئة والتنظيم ظهراً إلى مكتب أبي عمار كعادتي كل يوم وإذ بي أقابله وهو يهم بالخروج ومعه أبو مازن (محمود عباس ) ، فقال لي : ” الحمد لله ، كويس إنك جيت عشان تمشي الأمور هنا ، لأني أنا وأخوك أبو مازن رايحين نتغذى مع الفريق الأسد في بيته ( قبو المبنى المجاور في شارع الباكستان) . هي مسألة ساعتين بالكثير ولما نرجع نكلمك عن حديثنا مع الفريق ..”. عاد أبو مازن لوحده بعد أقل من ساعتين فسألته أين أبو عمار؟ قال أنه ذهب إلى لبنان . ثم تابع : ” سأعطيك زبدة الحوار مع الفريق الأسد .. أنا خرجت بيقين أنه إن كانت فلسطين سوف تتحرر فالذي يحررها هو حافظ الأسد !” قلت له : يا أبا مازن ، كنت في جلسة ثنائية مطولة مع أخينا أبي لطف يوم 27 تموز 1970 في القاهرة عقب إغلاق الرئيس عبد الناصر إذاعتنا بعد تهجمنا على قراره الموافقة على مشروع روجرز ، وقد قال يومها : أخطأنا بهذا التهجم ، إذا كانت فلسطين سوف تتحرر فعبد الناصر هو الذي يحررها ! عارضته قائلاً : وما هو دورنا كثورة ؟ ما هو دور شعبنا ، ما هو دور جماهير الأمة ؟ هل يعقل أن نربط مصير وطننا بفرد أيا كان ؟ هل يموت تحرير فلسطين لو مات عبد الناصر ؟ لكنه أصر وكرر قوله : إذا كانت فلسطين ستتحرر فعبد الناصر هو من يحررها ! وبالفعل مات عبد الناصر بعد شهرين بالضبط من حديثنا ، واليوم أنت تربط تحرير فلسطين بحافظ الأسد حصراً ، أليس هذا إلغاء لدور ثورتنا وشعبنا وباقي أمتنا ؟ وكرر أبو مازن بإصرار أنه إذا كانت فلسطين سوف تتحرر فحافظ الأسد هو من سيحررها . عكس هذا الحوار المبكر بيني وبين محمود عباس تباين منطق وفهم جيلين ، أولهما يختزل تحقيق الأهداف الكبرى ببطل فرد ما ، بينما الثاني لا ينكر دور البطل في التاريخ لكنه يصر على دور للشعب أيضاً .
تقلبت علاقة القيادتين الفلسطينية والسورية كثيراً ما بين حال وحال ، في حين كان المنطق والعقل والصالح العام يفترض ثباتها نسبياً في حدود التوافق الاستراتيجي . وهكذا راحت هذه العلاقة تشهد خطاً بيانياً كثير التقلب ما بين إعلان توحيد القيادتين السياسية والعسكرية لسوريا والثورة الفلسطينية من ناحية وطرد ياسر عرفات علناً من سوريا على نحو مهين واكب تبني قيام انتفاضة واسعة ضده في صفوف حركة فتح يوم 9/5/1983 ، وصولاً إلى تحدي ياسر عرفات التسوية الأمريكية التي فرضها الاجتياح الصهيوني بقيادة أرئيل شارون والقاضية بخروج قيادة منظمة التحرير وقواتها ومؤسساتها من لبنان ، وهو المأخذ الرئيس الذي استخدمه المنتفضون ضده ، إلى جانب مسألة الفساد والفاسدين، فعاد سراً إلى طرابلس ، ثاني أكبر مدن لبنان والقاعدة الكبرى لمسلميه ، بعدما رتب تجمع مجموعات قتالية هامة موالية له هناك . اعتبرت أوساط عديدة هذه العودة بمثابة نقلة بالغة الجرأة تحدت المنتفضين وتحدت قرار إبعاده من سوريا التي تعتبر طرابلس قاعدة رئيسة لمجالها الحيوي ، كما تحدت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أيضاً . تطور الوضع ليفرز قتالاً فلسطينياً ـ فلسطينياً انتحارياً خاضته الأطراف المعارضة لعرفات بدعم سوري سياسي وميداني كامل . انتهى الأمر بعد تدخلات دولية وعربية إلى خروج عرفات وقواته مجدداً من لبنان ، وقد توقفت السفينة التي استقلها أثناء عبورها قناة السويس ليصعد إليها الرئيس المصري حسني مبارك ـ الذي اعتبره الكيان الصهيوني لاحقاً كنز إسرائيل الاستراتيجي ـ مرحباً بعرفات . كان ذلك اللقاء خرقاً فلسطينياً علنياً لقرار القمة العربية مقاطعة النظام المصري منذ بدأ أنور السادات الردة التي أسست لانهيار الالتزام العربي الرسمي بجوهر الصراع ضد الغزوة الصهيونية لفلسطين . طرح المرحوم صلاح خلف (أبو إياد) آنذاك تبريراً مفاده أننا نقترب من النظام المصري بمقدار ابتعاده عن كامب ديفيد ، فرددت من ناحيتي محذراً من أن ميزان القوى لا يسمح سوى بأن يجرنا النظام المصري إلى موقعه ، وليس العكس . نجحت سوريا بجمع عشر فصائل في جبهة تعمل ضد قيادة عرفات من دمشق . جاء رد عرفات بعقد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان لتأكيد شرعية قيادته ونهجه . كانت تلك معركة كسر عظم حقيقية إذ راهنت سوريا وجبهة الفصائل المعارضة في دمشق على عدم توفر النصاب القانوني لاجتماع المجلس الذي أراده عرفات بوابة تواصل مباشر مع الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل ،حيث نقل التلفزيون الأردني كافة مداولات جلساته على الهواء مباشرة . لم تقتصر براعة عرافات على استقطاب حتى ممثل منظمة الصاعقة التي أنشأتها سوريا ورشحته نائباً لرئيس المجلس الوطني ، وإنما تفاهم مع الجبهة الديمقراطية (حواتمة) وحتى بعض قادة الجبهة الشعبية (حبش) على الإيعاز لبعض مندوبيهم المقيمين في الأردن بالانتظار خارج قاعة اجتماع المجلس للدخول وإنقاذ الموقف في حال عدم اكتمال النصاب ، بحيث تعلن الجبهتان عندئذ أن هؤلاء تمردوا على قرار قيادتيهم المتمركزتين في دمشق .. لكن النصاب اكتمل دونما دخول هؤلاء القاعة ، واستعاد عرفات قوته ، بل اعتبر أنه قد تحرر من أي قيد على حركته بعد تجديد انتخابه .

طبيعي أن لتدخلات وعلاقات خارجية دورها في تقلبات مواقف الفصائل وعلاقاتها ، إضافة إلى تقلبات المزاج الفردي لبعض قادتها أحياناً ، تساوقاً مع العقلية السائدة في النظام الرسمي العربي التي تجعل الحاكم سيداً مطلقاً للبلاد والعباد ، يقرر ما يشاء ويتقلب كلما شاء أو شيء له .

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الأولى)

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثانية )

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثالثة )

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي ( الحلقة الخامسة )

كاتب

  • د. خير الدين عبد الرحمن

    يحمل د. خير الدين عبد الرحمن درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية. عمل مديراً لمكتب صحيفة "الأحرار"، ورئيساً لتحرير "فتح" اليومية، ورئيساً لتحرير مجلتي "المسيرة" و"الأشبال" خلال الفترة 1963-1973، وكان مفوضاً سياسياً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية، ورئيس دائرة التعبئة الفكرية والتوجيه السياسي في الثورة الفلسطينية خلال الفترة (1971-1973). عمل سفيراً لدى السودان وإثيوبيا والباكستان وسريلانكا وكينيا خلال الفترة (1973-1989)، ومندوباً دائماً لدى منظمة الوحدة الأفريقية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية حتى عام 1989. وهو مستشار جامعة الباسفيك الجنوبية في لوس أنجلوس،كاليفورنيا للشؤون الدولية منذ عام 1985. شارك في رئاسة أو عضوية وفود إلى مؤتمرات القمة العربية أو مؤتمرات وزراء منظمة دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية، وكذلك في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية الدولية في أوربا وآسيا وأفريقيا. نشر عدداً من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية أبرزها: "الثورة الفلسطينية" (1971)، و"الصخرة والبحر" (1980)، و"الوجيز" في علم السياسة (1986)، و"القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين" (1996)، و"أسلحة القرن الحادي والعشرين" (1996)، "فلسطين" (1981)، و"السمات السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية" (1983). صدر له اثنا عشر كتاباً بعد نشر هذا التعريف ، ومجموع ما تم نشره 24 كتابا وأكثر من 1300 دراسة وبحث ومقالة . استقال من عمله سفيرا امطلع العام 1989 اعتراضا على نهج التسوية مع العدو ، كما سحب ترشيحه للجنة المركزية لحركة فتح في مؤتمرها العام الخامس في نفس العام لنفس السبب ، وتفرغ للدعوة إلى تيار يوحد ما بين الديني والقومي والوطني و يتشبث بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.

د. خير الدين عبد الرحمن

يحمل د. خير الدين عبد الرحمن درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية. عمل مديراً لمكتب صحيفة "الأحرار"، ورئيساً لتحرير "فتح" اليومية، ورئيساً لتحرير مجلتي "المسيرة" و"الأشبال" خلال الفترة 1963-1973، وكان مفوضاً سياسياً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية، ورئيس دائرة التعبئة الفكرية والتوجيه السياسي في الثورة الفلسطينية خلال الفترة (1971-1973). عمل سفيراً لدى السودان وإثيوبيا والباكستان وسريلانكا وكينيا خلال الفترة (1973-1989)، ومندوباً دائماً لدى منظمة الوحدة الأفريقية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية حتى عام 1989. وهو مستشار جامعة الباسفيك الجنوبية في لوس أنجلوس،كاليفورنيا للشؤون الدولية منذ عام 1985. شارك في رئاسة أو عضوية وفود إلى مؤتمرات القمة العربية أو مؤتمرات وزراء منظمة دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية، وكذلك في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية الدولية في أوربا وآسيا وأفريقيا. نشر عدداً من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية أبرزها: "الثورة الفلسطينية" (1971)، و"الصخرة والبحر" (1980)، و"الوجيز" في علم السياسة (1986)، و"القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين" (1996)، و"أسلحة القرن الحادي والعشرين" (1996)، "فلسطين" (1981)، و"السمات السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية" (1983). صدر له اثنا عشر كتاباً بعد نشر هذا التعريف ، ومجموع ما تم نشره 24 كتابا وأكثر من 1300 دراسة وبحث ومقالة . استقال من عمله سفيرا امطلع العام 1989 اعتراضا على نهج التسوية مع العدو ، كما سحب ترشيحه للجنة المركزية لحركة فتح في مؤتمرها العام الخامس في نفس العام لنفس السبب ، وتفرغ للدعوة إلى تيار يوحد ما بين الديني والقومي والوطني و يتشبث بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *