تحاليل و تقارير ساخنه

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الأولى)

د. خير الدين عبد الرحمن

تابعت بشغف منذ العاشرة من عمري معارك جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر ، ورحت أحلم بقيام جبهة التحرير الوطني الفلسطينية . كما شدتني أخبار عمليات مجموعات الفدائيين الفلسطينيين المنطلقة من غزة ضد الغزاة الصهاينة ، لكن طفولتي لم تمنعني من التطلع إلى ثورة أكبر وأوسع تشارك فيها كل تجمعات شعبنا في الوطن والمنافي . اطلعت صدفة على وريقات كتبها المرحوم والدي ، وإذ بي أجدها قد صارت بعد أسابيع نشرة داخلية مطبوعة باسم أحد التنظيمات الفدائية السرية التي راحت الهمسات تتداول أسماءها ونشاطاتها في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين والنصف الأول من ستينياته . وعندما أعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 شابت أملي بها وحماسي لها شكوك بجدوى انتظار تحرير فلسطين عبر مؤسسة أنشأها مؤتمر للرؤساء والملوك العرب وربطها بجامعة الدول العربية . صحيح أن تبني الرئيس المصري جمال عبد الناصر لها قد أعطاها بعض الزخم ، لكن صراعات عبد الناصر آنذاك مع النظام السوري ومع ملكي السعودية والأردن والرئيس التونسي بورقيبة قد عززت شكوكي بجدواها ، بينما كانت متابعتي على مدى سنوات لمجلة (فلسطيننا) التي روجت لأهداف وأفكار ومبادئ حركة فتح قد جعلتني أنحاز لهذه الحركة قبل أن أتعرف إلى أي من أعضائها . وهكذا كتبت مقالة هاجمت فيها نهج وبيروقراطية منظمة التحرير ورئيسها المرحوم أحمد الشقيري ومن اختارهم لقيادتها ودعوت بالمقابل للبديل الثوري الذي تمثله حركة فتح . بعثت المقالة للمرحوم شفيق الحوت الذي كان مشرفاً على ملحق فلسطين الأسبوعي في صحيفة المحرر البيروتية ، فلم ينشرها وإنما بعث لي برسالة شخصية رقيقة ناشدني فيها الرفق بالمنظمة الوليدة والمتصدين لتأسيسها . قاطعت بعد شهور خطاب المرحوم أحمد المرعشي عندما أشاد بمنظمة التحرير في مهرجان بذكرى اغتصاب فلسطين يوم 15/5/1965 ووقفت هاتفاً : ( العاصفة طريق التحرير ) ! عندما وجدت أن هناك من رددوا الهتاف خلفي أعدته مراراً بحماس أكبر، وكان عدد من رددوه يتزايد كل مرة ، مما أثار حنق وامتعاض عجائز وجهاء النضال الصالوني الحاضرين ممن كانوا قد جعلوا أنفسهم مرشحين لتصدر المنظمة . لم ألبث أن فوجئت بعد أسابيع قليلة بزيارة المرحومين ياسر عرفات ويوسف عرابي وعيد اللحام الذين اقترحوا علي الالتزام بحركة فتح وكلفوني خطياً بأول مهمة لي في إطارها .
لم يمنعني التزامي بالحركة من القلق إزاء تفريخ عديد من التنظيمات ، بينما كنت أفرح كلما علمت أن أحد هذه التنظيمات قد اتحد مع حركة فتح ، إذ أنني كنت أوقن بالفطرة أن تعدد الحركات والفصائل سوف يبعثر جهود شعبنا ويكرس امتدادات عضوية لعدة أنظمة عربية حاكمة ويفاقم التأثيرات السلبية لتلك الأنظمة العربية المتصارعة فيما بينها على ثورتنا ، مما يبدد الكثير من قدراتنا وطاقاتنا التي يفترض أن نركزها جميعاً ضد العدو الصهيوني .
أقلقني كثيراً تزايد الانفلاش وتصاعد النرجسيات الفصائلية وشطط العديد من التنظيمات التي توالدت كالفطر في الأردن بعد معركة الكرامة في آذار 1968 . لا أنكر أنني عشت صراعاً داخلياً في السنوات اللاحقة بين دغدغة مقولة ( أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ) التي وردت في نشيد قصير لأخينا المرحوم سعيد المزين ، وبين تخوف عقلاني من نتائج تصاعد النرجسيات الفصائلية التي راحت تتحول إلى صدامات وصراعات بينية مؤذية ، وزادت من استقواء بعض الفصائل على بعضها بعضاً بأنظمة عربية حاكمة وأجهزة مخابراتية . كنت لا أخفي قلقي على الثورة كلها ما دامت لم تستفد من أكبر تجربتين معاصرتين ناجحتين للتحرر من الاستعمار : جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي أنهت التشرذم وصهرت عدة تنظيمات ومجموعات في إطارها ، وجبهة تحرير جنوب فيتنام التي وحدت بدورها كل القوى والتنظيمات والأحزاب المتنافرة . لم يغرني كثيراً حديث أخينا أبي عمار عن ( ديمقراطية غابة البنادق ) أو عن ( التحالف في إطار منظمة التحرير ) فقد كنت لعدة سنوات لصيقاً بما يعتبر (مطبخ) القرار وأعرف جيداً كيف كان أبو عمار يمسك الخيوط ويحركها ويخترق الفصائل ويقفز بين ألغام أنظمة عربية وامتداداتها في الساحة الفلسطينية .. وهكذا تصاعد يقيني بأن كل صراع أو تنافس فصائلي في ساحتنا إنما يتم على حساب التصدي للعدو الصهيوني ، وبالتالي يضعفنا جميعاً ويريح هذا العدو .
لقد شهدت سنوات ما بعد معركة الكرامة انفلاشاً مسلكياً وتنظيمياً وعسكرياً في كافة الفصائل الفلسطينية في الأردن ، إضافة إلى صراعات فيما بينها وداخل كل واحد منها ، مما أسهم في المحنة الكبرى التي لحقت بالثورة الفلسطينية فيما بين أيلول 1970 وتموز 1971 بحيث حرمتها من أطول حدود مع وطننا المحتل ومن أضخم خزان بشري فلسطيني على الإطلاق خارج الوطن . صحيح أن القضية كانت أكبر من أوضاع داخلية فلسطينية أو العلاقة مع النظام الأردني ، فليس سراً أن قرار إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن الذي شكَل نواة تهديد وجودي جاد للكيان الصهيوني كان قراراً أمريكياً ـ صهيونياً أساساً ، وقد كشف هنري كيسنجر واسحق رابين وآخرين هذه الحقيقة آنذاك وأكداها هما وآخرون لاحقاً ، كما أنني سمعت من رئيس عربي في أيلول 1970 عن تلقيه تحذيراً سوفييتياً بجدية الإنذار الأمريكي الذي رافق قرار الرئيس نيكسون استنفار كافة القواعد العسكرية الأمريكية الخارجية للتدخل في الأردن في حال تغلب الجانب الفلسطيني . إنما أعتقد أن النتائج ما كانت لتبلغ تلك النهاية لو لم تشتط فصائل في صراعاتها البينية والذاتية الحمقاء ، ناهيك عن التأثير السلبي لطروحات وممارسات الطفولة اليسارية لمتمركسين طارئين من ناحية وناقصي تربية ثورية استوعبتهم حركة فتح وسواها دونما إعداد كاف وضبط رادع من ناحية ثانية .
التقاني المرحوم عصام السرطاوي يوماً في غرفة المرحوم أبو عمار أوائل العام 1971 وهمس في أذني مقترحاً أن ننتقل إلى الشرفة ليخبرني بأمر هام . هناك قال أنه طبع عشرين ألف نسخة من كتيب ألفه ليثبت ما أسماه (عمالة الجبهتين الشعبية والديمقراطية للمخابرات المركزية الأمريكية ) ، لكن أخانا أبا عمار علم بالأمر فور اكتمال الطباعة وأمر بإحراق كل النسخ ، وقال لعصام : ” لن أسمح بتفجير الساحة الفلسطينية .. ألا تكفينا الجراح التي أنهكتنا في الأردن ؟ ” ، وأردف عصام قائلاً : ” مع ذلك تمكنت من تهريب نسختين من الكتيب ، واحدة لي والأخرى لك ” !
لقد صدمني حديث عصام ، فعلى الرغم من أنني كنت موقناً أن لكل مخابرات الدول الكبرى والإقليمية والماسونية امتدادات واختراقات في ساحتنا وفصائلنا ، إلا أن من الظلم توجيه مثل هذا الاتهام إلى فصيل أو أكثر دونما إثباتات دامغة ، بينما اعتمد عصام على مراكمة الشكوك والتفسيرات والتحليل والاستنتاج . هذا نموذج لما كان من إيغال في التشكيك المتبادل الذي لم ينج منه أحد ، ولا تحاشاه أحد بدرجة أو أخرى . بل إن حركة فتح قد تعرضت للتشكيك والاتهام وحتى التآمر من كل الفصائل الأخرى تقريباً بدرجات متفاوتة ، وإن ساعدها حجمها وتفوقها العددي والتسليحي وعلاقاتها الجماهيرية والسياسية على حماية الذات ولجم الآخرين. تساءلت منذ ذلك الوقت كيف لنا أن نصمد في مواجهة التآمر الدولي والإقليمي إذا كنا لا نرحم بعضنا بعضاً .
بعد شهور من ذلك الحديث مع عصام في دمشق ، كنت أقرأ منفرداً ذات مساء في مقهى الدولتشي فيتا ببيروت عندما انتقل كمال ناصر إلى طاولتي وقال : أبو الخير أنت معروف بصراحتك ونضوج فكرك وشجاعتك ، لدي سؤال هام وسأبني موقفي وتحركي على ضوء جوابك . لقد كلفتني اللجنة المركزية لمنظمة التحرير ( كانت تضم آنذاك اللجنة التنفيذية والأمناء العامين للفصائل ) بإجراء اتصالات لتحقيق الوحدة الوطنية من أجل تجنب ما أصابنا في الأردن ، إنما يتوقف نجاحي أساساً على الموقف الحقيقي لحركة فتح . قل لي هل حركة فتح جادة في السعي للوحدة الوطنية ؟ أجبته على الفور : ” إذا كانت بعض الفصائل مرتبطة عضوياً أو سياسياً بأنظمة عربية حاكمة أو بجهات وأجندات خارجية ، فقرار فتح ذاتي إلى حد كبير ، ونحن لا نخاف الوحدة الوطنية ، بل نسعى إليها بإخلاص دون عقد أو حساسيات ، فنحن الأكبر والأقوى والأرسخ في الساحة ، وبالتالي لا نخشى أن يبتلعنا أحد ، كما هو حال بعض الفصائل التي لا يسمح لها بتجاوز ما هو مرسوم لها من دور ومهام في الساحة .. “. قال كمال : ” لقد أرحتني .. أستطيع الآن أن أنجز ما تم تكليفي به مطمئناً ..” .
تساءلت مراراً بيني وبين نفسي بعد سنوات : ترى هل كان ردي على كمال ناصر دقيقاً آنذاك ؟ لن أخوض بالتفصيل في التجربة الثورية الفلسطينية المعقدة في المرحلة اللبنانية وصولاً إلى الاجتياح العسكري الصهيوني وصفقة خروج قوات الثورة ومؤسساتها إلى المنافي العربية تمهيداً لتسوية مع العدو الصهيوني . إنما لا أشك في أن الانقسامات والانشقاقات والصراعات الفصائلية أثناء المرحلة اللبنانية وفي أعقابها قد أسهمت بوعي أو بغير وعي في الانزلاق إلى أوسلو .

هذا ما أقف عنده في الحلقة الثانية .

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثانية )

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثالثة )

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الرابعة )

 

المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي ( الحلقة الخامسة )

د. خير الدين عبد الرحمن

يحمل د. خير الدين عبد الرحمن درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية. عمل مديراً لمكتب صحيفة "الأحرار"، ورئيساً لتحرير "فتح" اليومية، ورئيساً لتحرير مجلتي "المسيرة" و"الأشبال" خلال الفترة 1963-1973، وكان مفوضاً سياسياً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية، ورئيس دائرة التعبئة الفكرية والتوجيه السياسي في الثورة الفلسطينية خلال الفترة (1971-1973). عمل سفيراً لدى السودان وإثيوبيا والباكستان وسريلانكا وكينيا خلال الفترة (1973-1989)، ومندوباً دائماً لدى منظمة الوحدة الأفريقية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية حتى عام 1989. وهو مستشار جامعة الباسفيك الجنوبية في لوس أنجلوس،كاليفورنيا للشؤون الدولية منذ عام 1985. شارك في رئاسة أو عضوية وفود إلى مؤتمرات القمة العربية أو مؤتمرات وزراء منظمة دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية، وكذلك في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية الدولية في أوربا وآسيا وأفريقيا. نشر عدداً من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية أبرزها: "الثورة الفلسطينية" (1971)، و"الصخرة والبحر" (1980)، و"الوجيز" في علم السياسة (1986)، و"القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين" (1996)، و"أسلحة القرن الحادي والعشرين" (1996)، "فلسطين" (1981)، و"السمات السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية" (1983). صدر له اثنا عشر كتاباً بعد نشر هذا التعريف ، ومجموع ما تم نشره 24 كتابا وأكثر من 1300 دراسة وبحث ومقالة . استقال من عمله سفيرا امطلع العام 1989 اعتراضا على نهج التسوية مع العدو ، كما سحب ترشيحه للجنة المركزية لحركة فتح في مؤتمرها العام الخامس في نفس العام لنفس السبب ، وتفرغ للدعوة إلى تيار يوحد ما بين الديني والقومي والوطني و يتشبث بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *