تحاليل و تقارير ساخنه

دراسة توثيقية تأريخية: ثمانية عشر عاما على اجتياحها: الحرب المنسية في مدينة جبل النار…!

النابلسيون سطروا ملحمة مفتوحة في موسوعة النضال والصمود  الفلسطيني.

مدينة جبل النار تعرضت لاطول حصار وواجهت أوسع اجتياحات حربية منذ سنوات .

أبعاد تاريخية واقتصادية وجغرافية وسياسية ومعنوية وراء الاجتياحات الاسرائيلية للبلدة القديمة .

 

نواف الزرو
نواف الزرو

نواف الزرو*

 

*أطول حصار في التاريخ الفلسطيني

برغم ضخامة وحجم التدمير والدمار والخراب الذي ألحقته آلة الحرب الاحتلالية في البلدة القديمة من نابلس، والذي طال نحو 4600 مبنى حسب محافظ نابلس، ومن ضمنها أهم وأعرق المواقع التاريخية والتراثية… وبرغم بشاعة المجازر الدموية الجماعية والفردية التي اقترفتها قوات الاحتلال ضد أطفال ونساء وشيوخ وشبان نابلس.. وبرغم جرائم الحرب الأخرى واسعة النطاق التي طالت كل بيت وكل أسرة فلسطينية في مدينة جبل النار… إلا أن دولة الاحتلال لم تكتف.. ولم تتوقف عند الاجتياحات التدميرية الأولى على مدار شهور شباط وآذار ونيسان وأيار/2002، بكل ما ترتب عليها من دمار مروع، بل واصلت سياسة الاجتياحات التدميرية والاقتحامات التنكيلية والاعتقالات والإعدامات الميدانية والاعتقالات الجماعية، بل و أوغلت في حربها التدميرية ضد نابلس، ففرضت الحصار والأطواق الحربية وأقامت عشرات الحواجز العسكرية القمعية التي لم تفصل فقط نابلس عن مخيماتها وقراها، ولم تفصل فقط كل مخيم عن الآخر، وكل قرية عن الأخرى، بل فصلت أيضاً كل حي عن الآخر.. وإلى حد كبير كل شارع عن الآخر، وفي بعض الحالات كل بيت عن الآخر حسب شهادات أهالي نابلس.

وبينما أكد بيان رسمي فلسطيني على “أن نابلس العاصمة الاقتصادية لفلسطين تتعرض لحملة وحشية من التدمير المبرمج والمخطط الذي يستهدف كافة المنشآت والمصانع والبنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء بهدف تركيع الشعب الفلسطيني”، أكد غسان الشكعة رئيس بلدية نابلس من جهته قائلاً: “لقد استخدم الرومان نظام الحصار ومنع التجول.. ثم استخدمه العباسيون.. ومارسه الألمان في الحرب العالمية الثانية، كما اتخذه العالم الثالث وسيلة لقمع الإضرابات والمظاهرات، لكن إسرائيل تمارسه بشدة منذ عام 1967، وتمارسه حالياً بشكل لم يسبق له مثيل في النظام العالمي على مر العصور”. وأضاف الشكعة: “تتعرض نابلس منذ الحادي والعشرين من حزيران/2002 لفرض منع التجول المشدد والخانق، ولم يرفع خلال تلك الفترة سوى 13 مرة بمعدل خمس ساعات يومياً، وتسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى تدمير البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لهذه المدينة التي تشكل قوة اقتصادية وصناعية واجتماعية وترى بذلك أنها تستطيع تركيع الشعب الفلسطيني، غير أن ذلك يؤدي إلى عكس ما يخططون”.

فهذا الذي جرى على أرض مدينة جبل النار، قد لا يماثله أي مشهد في أي مدينة فلسطينية أخرى، فالحقيقة الكبيرة ان دولة وجيش ومستعمري الاحتلال شنوا حربا مفتوحة ضد المدينة لم تتوقف على مدى سنوات، وكان ذلك في بدايات حملة “السور الواقي” الشارونية، وربما على خلاف مدن اخرى عديدة قد تكون شهدت هدوءا  معينا على فترات متقطعة، فان مدينة نابلس لم تشهد مثل هذا الهدوء ابدا، فالمدينة تعرضت إلى ما يمكن أن نسميه”الحرب المنسية” التي تواصلت في ظل تعتيم إعلامي عجيب غريب.

 *تدمير 6000 منزل وتهديم 1050 متجرا

فلم تقتصر الاجتياحات الاحتلالية في نابلس على الاشتباكات المسلحة او الاغتيالات او الاعتقالات او الحصارات والاطواق العسكرية التجويعية مثلا، بل تعدتها الى مستوى جرائمي مرعب يتعلق بتدمير المنازل والمتاجر والبنية التحتية الاقتصادية والتجارية والمعيشية والتعليمية والحضارية –التراثية وغيرها.

فحسب إحصاءات محافظة نابلس فقد بلغ عدد المنازل التي دمرتها قوات الاحتلال خلال الاجتياحات تدميراً كلياً حوالي  1000 منزل ، بينما بلغ عدد المنازل التي دمرت تدميرا جزئيا حوالي 5000 ، بالاضافة الى نحو 1050 متجراً بين هدم كلي و جزئي.

ولذلك نقول : ليس من قبيل المبالغة والتهويل القول بأن مدينة جبل النار تعرضت لاطول حصار احتلالي منذ اندلاع انتفاضة الاقصى، حيث لم تتوقف قوات الاحتلال عن ضرب الحصار الشامل على المدينة، في الوقت الذي لم تتوقف فيه ابدا عن شن حملاتها واجتياحاتها الحربية ضد المدينة، ومنها البلدة القديمة على وجه التحديد.

وكأن دولة الاحتلال كانت متفرغة لهذه المدينة تستهدفها على مدار الساعة نسفا وتدميرا وتخريبا واغتيالات واعتقالات وحصارات تجويعية مفتوحة…!

الا ان اهل المدينة وفق المعطيات والشواهد يسطرون ملحمة نابلسية خاصة متميزة أخذت تحتل مكانتها في موسوعة النضال والصمود الاسطوري الفلسطيني في مواجهة الدولة الصهيونية.

ولعلنا نقرأ في عناوين ومعطيات المشهد النابلسي ما يلي:

– قوات  كبيرة من جيش الاحتلال  مدعومة بالطائرات تجتاح مدينة نابلس في عملية جديدة أطلقت عليها “الشتاء الحار” .

– نحو مائة وعشرين آلية عسكرية إسرائيلية إضافة الى عدد من الجرافات العسكرية تقتحم المدينة وتفرض عليها منع التجول وهذه العملية تعد الأوسع في المدينة  منذ عام 2002.

– قوات الاحتلال تركز عمليتها داخل البلدة القديمة، وتحديداً في حارة الياسمين التي انتشر فيها الجنود الاسرائيليون الذين حولوا جزءاً من منازلها الى ثكنات عسكرية بعد أن احتجزوا سكانها في غرف داخلية.

– قوات الإحتلال تفرض منع التجول على نابلس البلدة القديمة وتقوم بحملة تفتيش من بيت إلى بيت..

– آليات الاحتلال تجرف شوارع رئيسية وتقطع شرق المدينة عن غربها…

– الجرافات الاسرائيلية تقوم بوضع مكعبات اسمنتية امام مديرية التربية والتعليم في نابلس وتمنع كافة المواطنين من الوصول الى الجزء الغربي من المدينة.

–  جنود الاحتلال يصيبون ويعتقلون العشرات ..ويفجرون المنازل ويقومون باعمال قرصنة..

ويحتلون تلفزيون نابلس و اذاعة صوت النجاح وينشرون بيانات تطالب المقاومين بتسليم أنفسهم..

– قوات الاحتلال تحاصر مشفيي رفيديا والوطني وتمنع وصول الجرحى والمرضى إلا بعد احتجازهم والتحقيق معهم..

– الحواجز العسكرية تعيق حركة سيارات وأطقم الإسعاف…

– القوات تنسف منازل في البلدة القديمة  بينها منزل يعود لقيادي في كتائب شهداء الاقصى يلقب بـ”القذافي”..

–  وتحول مدرسة الى معتقل و تفرض حظراً للتجول و تحاصرت المدينة من جهاتها الأربع مانعة الدخول والخروج منها.

– وعلقت الدراسة في كافة المدارس وسمع دوي انفجارات واندلعت اشتباكات اعترف خلالها جيش الاحتلال باصابة اثنين من جنوده في وقت تصدت اجنحة المقاومة من مختلف الفصائل للقوات المتوغلة.

-ورغم هذا المشهد النابلسي المرعب المثخن بجراح الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات والهدم والتدمير والتجويع ، الا ان “أفيخاي أدرعي” الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يطل علينا ليزعم”إن مدينة نابلس ومخيماتها باتت معاقل للإرهاب”، معتبرا “الاجتياحات الإسرائيلية شبه اليومية للمدينة “عمليات دفاعية” هدفها إحباط العمليات ضد الإسرائيليين انطلاقا من داخل المدينة ومخيماتها .

فيا له من دفاع مزعوم  يستهدف مدينة كاملة بانسانها وحجرها وشجرها.

* فلماذا نابلس إذن …؟!!

فحينما نتابع معطيات المشهد المروع الماثل أمامنا  في فلسطين، ونرى تلك الحملات الحربية التدميرية المجازرية الإسرائيلية المتلاحقة المكثفة المركزة، وذلك الحصار القمعي التنكيلي العقابي الإرهابي المستمر بلا توقف وعلى مدى سنوات عديدة ضد مدينة نابلس وقراها ومخيماتها على نحو خاص، فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة متزايدة:

– لماذا نابلس على وجه التحديد..؟!

– لماذا كل هذا الهجوم الاحتلالي التدميري المحموم ضد المدينة وأهلها..؟!

– وما الذي يريده جنرالات الاحتلال من وراء تدمير المدينة وحضارتها على هذا النحو الإجرامي السافر الذي تابعناه.. عربياً بمنتهى العجز المفجع..؟!

*أبعاد تاريخية واقتصادية وجغرافية وسياسية ومعنوية وراء الاجتياحات

الإحاطة بهذه الأسئلة والتساؤلات بالغة الأهمية وغيرها تستدعي بالضرورة التوقف عند جملة من الحقائق الكبيرة المتعلقة بالمدينة من حيث مكانتها في الخريطة الجيوسياسية الفلسطينية.

فإن توقفنا أمام العنوان التاريخي الحضاري التراثي، فنابلس تحتل المكانة المتقدمة في التاريخ العربي وفي فلسطين إلى جانب اقدم مدينة في فلسطين – أريحا، بل إن عبق التاريخ والحضارة العربية في فلسطين يتكثف في نابلس القديمة.. كما في القدس القديمة والخليل القديمة…

وإن تحدثنا اقتصادياً، فإن نابلس تعتبر العاصمة الاقتصادية لفلسطين بجدارة(الى جانب مدينة خليل الرحمن)، وطاقاتها الاقتصادية/ المالية والصناعية والزراعية والتجارية/ تشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الفلسطيني كله.

وإن نظرنا للمدينة من الزاوية الجغرافية فهي تحتل موقعاً استراتيجياً متميزاً في الخارطة الفلسطينية.

أما سياسياً ونضالياً، فللمدينة وأهلها تاريخ وطني نضالي طويل حافل ناصع مشرق في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وقد برز وتميز هذا الدور على نحو خاص جداً خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987-1993، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية – انتفاضة الأقصى والاستقلال/2000.

ما يقودنا إلى استخلاص بمنتهى الأهمية أن حملة التدمير والحصار ضد نابلس تنطوي أيضاً على بعد حاسم في مواجهة مشروع الاحتلال، هو البعد المعنوي الصمودي، وإن شارون إنما كان يستهدف إلى جانب التدمير الشامل للحضارة والتراث والتاريخ في نابلس، ضرب المعنويات وروحية التحدي والصمود لدى أهالي نابلس، الأمر الذي أدركه وأحبطه الأهالي رغم ضخامة الهجمة والدمار والحصار التجويعي ضدهم.

    *نابلس – الموقع والتاريخ

 

 موقع تل بلاطه
موقع تل بلاطه

فنابلس مدينة الحزن والجمال وصفها الرحالة العرب أنها “قصر في بستان” ويسمونها (دمشق الصغرى) وهي تحريف عن اسمها اليوناني Neapolis بمعنى المدينة الجديدة تمييزاً لها عن مدينة (شكيم) Shechem القديمة التي دمرت سنة 67م زمن الإمبراطور نيرون (54-68م) الذي أرسل فاسبسيانوس أحد أشهر قادته بحملة عظيمة دمرت شكيم بالكامل بسبب تمرد سكانها وهي من أقدم مدن العالم في موقع تل بلاطه وهي بلدة كنعانية.

وقد شيدت مدينة نابلس ما بين سنتي 71-72م غرب مدينة (شكيم) المدمرة، وبين أحضان سفوح جبليها “عيبال” شمالاً و”جرزيم” جنوباً، وعلى امتداد واديها المتجه من الشرق إلى الغرب تتربع المدينة بكبرياء وإباء قيمة على ميراث من الحضارة والتراث الإنسانيين أكسبها طابعاً فريداً متميزاً على مدار الأيام.

ونابلس في الأصل مدينة كنعانية أطلق عليها العرب الكنعانيون اسم “شكيم”، والشكيمة في اللغة العربية تعني الأنفة والعزة والرفعة وعدم الانقياد، وفي عهد الإمبراطور الروماني “فسبسيانوس” أمر بإعادة بنائها وإعمارها تحت اسم لاتيني مركب هو “فيلافيا نيابولس” وبالعربية مدينة فيلافيا الجديدة، وفيلافيا هو اسم عائلة الإمبراطور “فسبسيانوس”، ومع الأيام بقي من اسمها المقطع الثاني “نيابولس” الذي حرف إلى اسم نابلس الحالية.

منذ بدايات نشأتها الأولى وحتى نهاية عهد الانتداب البريطاني في العام 1948 مرت على نابلس شعوب وحضارات كثيرة بدءاً بالعرب الكنعانيين ومروراً بالرومان فالبيزنطيين فالمسلمين الذين تعددت دولهم الأيوبية والمملوكية والعثمانية.

ونابلس التاريخية يطلق عليها مسمى “القصبة” أو البلدة القديمة وفي الحقيقية فإن هذه المدينة تتكون من ثلاث قصبات رئيسة تمتد من شرقها إلى غربها، وهي محاطة بسور من المباني والمنشآت القديمة، ولها كما تذكر الروايات والكتب التاريخية ست عشرة بوابة، ومنها بوابتاها الرئيستان الشرقية عند الجامع الصلاحي الكبير، والغربية عند جامع الخضر.

والقصبة عبارة عن ممر أو طريق ضيقة مرصوفة بالحجارة الملساء تقع على جانبيها الدكاكين ومحال التجار والصناع، وهي في العادة تحتل الطابق الأول، أما الطابق الثاني فكان يشكل بيوتات لأسر الصناع والحرفيين والتجار، وكانت هناك ولا تزال أحواش على أطراف هذه القصبات تؤدي إلى دور سكينة متلاصقة تسكنها العائلات النابلسية الممتدة، كما أن هناك العديد من الأسواق المتخصصة تشكل حلقة وصل ما بين القصبات من الشمال إلى الجنوب، وبين القصبات تتموضع حارات نابلس القديمة وأسواقها التجارية والعديد من مرافقها الأساسية تنتسب إلى التاريخ بشتى عصوره.

أيضاً كما جاء في المصادر الفلسطينية “تتكون نابلس القديمة من سوقين:

الأول يمتد من الباب الشرقي حتى نهاية الباب الغربي. أما السوق الآخر فيبلغ طوله نصف السوق الأول.

وتزخر بالجوامع والمساجد من المسجد الكبير شرقي المدينة الذي كان الصليبيون قد حولوه إلى كنيسة كبيرة عرفت باسم كنيسة البعث (القيامة) وعندما تم تحرير نابلس عقب معركة حطين حمل هذا الجامع اسم الجامع الصلاحي الكبير أو الجامع الكبير.

كما ويعتبر جامع الخضرا الواقع في حي الياسمينة من المساجد الرائعة التي شيدت في العصر المملوكي، عمّره السلطان المنصور سيف الدين قلاوون وشيد على النمط القوطي وجامع الأنبياء وجامع المساكين – و جامع الساطون وجاع البيك”.

و”اهتم سكان نابلس بتشييد منازلهم لكي توفر لهم أسباب الراحة وهي كأنها منازل وحدائق تحتوي على غرف كثيرة وقاعات تجلب الراحة للنفس وامتازت بيوت الأغنياء بالفخامة إلى درجة دفعت بالرحالة أوليا جلبي إلى تشبيهها بالحصون، وكانوا يستخدمون الحجارة الكلسية الصلبة في البناء.

وتحتوي البلدة القديمة كذلك على مجموعة من الحمامات انسجاماً مع ما تنادي به العقيدة الإسلامية فضلاً عن أهميتها العلاجية ومنها: حمام الريشة في ساحة البلدة القديمة المعروفة حالياً (المنارة) وحمام الدرجة خلف المسجد الكبير” .

ويقول الدكتور سعيد البيشاوي أستاذ التاريخ في جامعة القدس المفتوحة: “خلال هذه اللمحة السريعة يتضح لنا بأنها متحف طبيعي فعند التنقل بين حاراتها الست نشاهد أنماط معمارية مختلفة، منها الإسلامي والأيوبي والمملوكي والتركي. فضلاً عن المصانع الكثيرة الخاصة باستخراج زيت الزيتون والصابون والحلويات” .

ويقول الكاتب الفلسطيني- الراحل-لطفي زغلول عن نابلس – التاريخ والحضارة أيضاً: “الحديث عن نابلس هو حديث عن التاريخ، وليس ثمة مبالغة حين توصف هذه المدينة بأنها توأم له، فهي في قصباتها وتحديداً في حاراتها وأحواشها تقودنا إلى قصورها ودواوينها العريقة حيث الفناءات الرحبة والقاعات ذات العقود والأقواس والأعقدة والشبابيك العالية المزركشة الزجاج والسقوف المحلاة بالرسوم والأرضيات المرصعة بالبلاط الذي يشكل لوحات جميلة بعضها من الفسيفساء، وهناك المساجد الفسيحة من عهود الأيوبيين والمماليك والعثمانيين ومن أشهرها المسجد الصلاحي الذي بناه صلاح الدين الأيوبي غداة تحريره هذه المدينة من الصليبيين إلى جانب مسجد النصر في وسط المدينة الذي بناه أيضاً هذا القائد وأطلق عليه اسم النصر احتفاء بانتصاره آنذاك، وهناك جامع “الخضرة” الذي لحق به دمار كبير جراء الاجتياح الإسرائيلي لمدينة نابلس، وتمتاز نابلس بمجموعة من الحمامات القديمة تعرض بعضها لدمار في كثير من معالمها.

وتضم نابلس بين أحضان قصباتها حارات وأسواقاً تجارية قديمة وخانات هي بمثابة استراحات للقوافل التجارية التي كانت تفد إليها في تلك الأيام الغابرة، وهنالك عدد من الوكالات والسرايا والأبراج والقنوات المائية إلى جانب منظومة من عيون الماء وسبل المياه والزوايا والكنائس والمقامات والبوابات، وحين الحديث عن معالم المدينة فإن الصبانات (مصانع الصابون النابلسي الشهير) تشكل إحدى أبرزها، وننوه هنا إلى أن هذه الصبانات التاريخية القديمة تعرضت ثلاث منها إلى التدمير الشامل في الاجتياح الأخير، ولعل من أبرز المعالم التاريخية لمدينة نابلس منارة الساعة في باب الساحة وهي من العهد العثماني الوسيط.

 

 *نابلس – تاريخ من النضال والصمود والتصدي للغزاة

 

ووفق جملة من المصادر والوثائق الفلسطينية والعربية فقد قاومت الديار النابلسية جيوش الغزاة منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا، فعلى أرضها وقعت أشهر المعارك التي تعرضت لها فلسطين منذ العصور القديمة، حيث وقعت معركة مجدو، وخلال العصور الوسطى حيث وقعت معركتا (أرسوف) و(عين جالوت)، وفي العصور الحديثة وقعت معركة (صانور)، إضافة إلى حروبها مع نابليون، وثورتها ضد إبراهيم باشا، علاوة على تصديها للاحتلال الصهيوني منذ إعلان وعد بلفور عام 1917.

ولن نتمكن من خلال صفحات قليلة من إعطاء دور هذه المدينة النضالي في التصدي للغزاة حقه، حيث استمر أبناء المدينة ولوائها، في مقارعة المحتلين الذين استمروا في تدبيرهم للسيطرة على البلاد

ويسجل التاريخ النضالي لأبناء فلسطين عامة ولنابلس خاصة صفحات خالدة، ولن يكون بالإمكان في هذه المساحة الإشارة إلى نضال كل أبنائها.

على أرضية تلك المعطيات التاريخية الحضارية، والجغرافية والاقتصادية والسياسية والوطنية لمدينة جبل النار، لم يكن عفوياً أن تعرضت المدينة وما تزال إلى مسلسل لا نهاية له من مخططات وإجراءات التدمير والتركيع، ويشير التاريخ الفلسطيني إلى أن استهداف المدينة ليس حديثاً ولا يقتصر على الاجتياحات الإسرائيلية /الشارونية/ الأخيرة خلال حملات “حرب الألوان” “والسور الواقي” و”الخطة الصارمة”، بل إنه يعود إلى بدايات الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، إلى شهر أيلول عام 1967، حيث تعرضت المدينة إلى حصار شديد كان هدفه تجويع وتركيع السكان كما أكد ووثق الأستاذ حافظ داود طوقان رئيس بلدية نابلس سابقاً-رحمه الله-.

عن ذلك الحصار الاحتلالي القمعي التنكيلي المبكر للمدينة وأهلها كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين رحمه الله في مجلة المصور في التاسع والعشرين من أيلول/1967، تحت عنوان: “نابلس والخبز المر” يقول: “المدن عندي كالأشخاص، هناك الشخص الذي تحبه وتنجذب إليه من الوهلة الأولى وكذلك المدن. ونابلس العربية من المدن التي وقعت في حبها من النظرة الأولى زرتها مرة واحدة منذ أقل من عامين وقضيت فيها يوماً أو بعض يوم، وأصبحت على الفور قطعة عزيزة من نفسي، يوم بكيت المدن العربية وهي تسقط في أيدي العدو بكيت نابلس بكاءً خاصاً، ساعتها قفزت إلى مخيلتي على الفور كل الوجوه التي عرفتها هناك وفي المقدمة صديقي العلامة قدري حافظ طوقان، وكل المرافق وكل الآثار وكل المشاهد، تلميذات المدرسة التي زرتها، الحديقة الكبيرة تتنزه فيها العائلات على صوت النافورات، بيت طوقان القديم الذي يشبه صحن المسجد المكشوف، المباني الحجرية القديمة والحديثة، الشوارع القديمة التي تشعر بعد دقائق من السير فيها أنك تسير في الغورية وفي سيدنا الحسين بالقاهرة، الآن مدينة نابلس الأبية الفخورة تعيش تحت الحصار والاحتلال ويتربص في جنباتها الموت، وتغلق فيها المدارس وتخلو المدينة من أهلها وتصمت أصوات النوافير فلا يسمع الناس إلا أصوات الرصاص ودوي القنابل!

أتذكر الآن الوجوه العذبة التي جلست معها في بيت آل طوقان القديم حول صواني الكنافة النابلسية الشهيرة نأكل ونضحك ونتفلسف.. أي “خبز مر” تأكله هذه النفوس الأبية الآن، أنباء هذا الأسبوع تقول إن نابلس في قلب المقاومة والنضال هي اليوم مركز العذاب!!؟.

وحول المخططات والنوايا الإسرائيلية المبيتة التي استهدفت تدمير المدينة تدميراً شاملاً حضارياً وتراثياً وسياسياً ونضالياً، تحدث الأستاذ المرحوم حافظ داود طوقان أيضاً:

“وفي أوائل العام 1988 وكانت الانتفاضة الأولى قد اشتعلت في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة قتل واحد من جنود جيش الاحتلال داخل البلدة القديمة من مدينة نابلس بواسطة حجر كبير ألقي عليه من على سطح أحد البيوت الأثرية الكبيرة شيد قبل ثلاثمئة عام، بعد ذلك قامت قوات الاحتلال وبكمية كبيرة من الديناميت بهدم جزء من ذلك البيت الأثري الكبير وقد طال الانفجار بيوتاً على بعد مئة متر من المكان تهدمت الجدران والسقوف وأصيب عدد من المواطنين داخل بيوتهم بجراح من تطاير الزجاج، وانقطع التيار الكهربائي عن البلدة القديمة لعدة أيام، وكمية الديناميت الكبيرة كانت بمثابة عقوبة جماعية من أجل إلحاق أكبر ضرر ممكن بالأبنية الأثرية وإصابة أكبر عدد من المواطنين بالأذى النفسي والمادي.

“العقوبة الجماعية” من الأسلحة القذرة التي استعملها جيش الاحتلال منذ شهر حزيران عام 1967 وحتى هذا اليوم، في ذلك الوقت كنت أشغل منصب رئيس بلدية نابلس، وقد وصلتني معلومات تفيد أن وزارة الحرب في تل أبيب تعد مخططاً يهدف إلى تدمير أكثر من نصف البلدة القديمة من خلال شق شارع بعرض خمسين متراً يبدأ من جنوب البلدة القديمة في منطقة رأس العين وحتى المركز التجاري شمالاً خارج أسوار البلدة القديمة، هذا المخطط الإجرامي كان سيدمر الجزء الأكبر من البلدة القديمة وفي مقدمتها عدد من المساجد وبيوت أشبه بالقصور لآل طوقان والنمر وعبد الهادي والقاسم، وقمت على الفور بالاتصال بالقناصل العامّين الأجانب في القدس الشرقية الذين قاموا مشكورين بزيارة بلدية نابلس عدة مرات وكانوا دائمي الاتصال معنا، وقد قمنا بجول ميدانية داخل البلدة القديمة وزرنا الموقع الذي ذبحه ديناميت الاحتلال وكذلك الأبنية التي تضررت نتيجة عملية النسف قلت وأنا أوجه كلامي لهم وخاصة لقنصل فرنسا العام بالقدس الشرقية: لقد كان الفيلسوف الفرنسي الكبير غوستاف لوبون محقاً وصادقاً حينما قال عبارته الشهيرة (لا يمكن للشعب اليهودي أن يكون شعباً متحضراً في يوم من الأيام.

وأضاف السيد طوقان: “أجرت إذاعة لندن حديثاً معي أذيع أكثر من مره وقلنا يومها إن تراثاً إنسانياً شيد قبل مئات السنين تم ذبحه بالمتفجرات على يد الصهاينة المحتلين. وإن مخططاً رهيباً يستهدف البلدة القديمة من مدينة نابلس، وقاد أحمد بهاء الدين يومها حملة من خلال عموده اليومي بالأهرام “يوميات” شارك فيها محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وثلاثتهم يعرفون الموقع أثناء زيارتهم لمدينة نابلس وطالبوا منظمة اليونسكو العالمية أن تعمل على حماية ذلك التراث الإنساني.

في تلك الأثناء التقيت في باريس مع المدير العام لمنظمة اليونسكو فريدريكو ماير في مكتبه بمقر المنظمة وقدمت له مذكرة تضمنت بالإضافة إلى ما يتهدد تراث البلدة القديمة من نابلس من مخاطر، وما لحق بها و بمبانيها القديمة من هدم وتدمير، وما هو مبيت لها في المستقبل، تضمنت المذكرة طلباً بأن تدرج مدينة نابلس كمدينة أثرية من أجل حمايتها من العدوان الصهيوني المستمر عليها” .

إذن تعرضت  نابلس إلى اجتياح عسكري إسرائيلي متعدد الأبعاد والأهداف، ومنذ اللحظات الأولى له كان هذا الاجتياح يعمل في عدة محاور واتجاهات تتقاطع معاً في نقطة واحدة تتجسد في أحداث أكبر مساحة ممكنة من التدمير و التصدع والتشقق والاهتزاز في كل ما يمكن أن تطاله الآلة الحربية الإسرائيلية وتصل إليه من مبانيها، وليس أدل على ذلك من استخدام الطائرات القاذفة للقنابل والصواريخ ذات الأوزان الثقيلة والفاعلية الخطيرة وكذلك الجرافات العملاقة الأضخم في العالم وتحديداً في نابلس التاريخية/ بالبلدة القديمة.

وكثيرة هي المآسي والكوارث التي خلفها هذا الاجتياح العسكري على صعد شتى، إلا أن استهداف نابلس القديمة بميراثها التاريخي والحضاري قد ترك جراحات من الصعب اندمالها، و النابلسيون ما زالوا يتذكرون زلزال العام 1937 الذي ضرب فلسطين بعامة ونابلس بخاصة. وبرغم شدته وقسوته فإن هذا الزلزال لم ينل من هذه المدينة ما ناله هذا الاجتياح العسكري الارهابي الصهيوني الذي استهدف عامداً متعمداً النيل من تراثها الحضاري وانتمائها إلى التاريخ والأصالة، إن صورة نابلس القديمة التي عرفتها الأجيال تلو الأجيال قد تغيرت بعض ملامحها، فثمة فراغات غريبة لا تكاد تصدقها العيون تشاهد لأول مرة في تاريخها جراء التدمير الاجتياحي البربري، وثمة غياب لمعالم حضارية تاريخية عاشت قروناً مع الأجيال.

إن المرء لم يكد يصدق ما جرى، ولكنه في الحقيقة فصل آخر قاسٍ في منظومة المعاناة العامة للشعب الفلسطيني المتجذر في أرض آبائه وأجداده، والقيم على تراثهم الحضاري والفريد، وإذ كان حاضر هذا الشعب هو المستهدف حتى الآن، فها هو ماضيه يستهدف في هذا الاجتياح، ولكن وبرغم كل هذه القسوة والشراسة فإن الشعب الفلسطيني وتراثه التاريخي سيظل حضورهما إضاءة في فضاء هذا الزمن لا تقوى على إطفائها أعاصير و اجتياحات الاحتلال.

ما يقودنا هنا  في الخلاصة المكثفة إلى ضرورة توثيق وتأريخ تفاصيل ووقائع ومعطيات ونتائج وتداعيات حملات الاجتياح والتدمير والتركيع الاحتلالية ضد نابلس ومخيماتها وقراها منذ مطلع العام 2002 على نحو خاص، وإلى ملاحم التصدي والصمود الأسطورية التي سطرها أهل نابلس من جهة أخرى حتى  كتابة هذه السطور ، وذلك في إطار عمل موسوعي يحفظ للذاكرة وللأجيال، فنحن كشعب عربي فلسطيني في صراع مفتوح مع المشروع الصهيوني…صراع عابر للأجيال والأزمان.

 

[email protected]

كاتب

  • نواف الزرو

    -اسير محرر امضى احد عشر عاما في معتقلات الاحتلال الاسرائيلي ، حكم بالمؤبد مدى الحياة عام 1968 وتحرر في اطار صفقة تبادل الاسرى عام 1979 . - بكالوريوس سياسة واقتصاد/جامعة بير زيت-دراسة من المعتقل. - كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي - الصهيوني

نواف الزرو

-اسير محرر امضى احد عشر عاما في معتقلات الاحتلال الاسرائيلي ، حكم بالمؤبد مدى الحياة عام 1968 وتحرر في اطار صفقة تبادل الاسرى عام 1979 . - بكالوريوس سياسة واقتصاد/جامعة بير زيت-دراسة من المعتقل. - كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي - الصهيوني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *