أقلام الوطن

لماذا استثناء فلسطينيي لبنان وسوريا من المساهمات المالية الامريكية ؟

فتحي كليب*

كان لافتا، وليس مستغربا، الكلام المنقول على لسان مسؤولي الادارة الامريكية أن من بين شروط هذه الادارة للعودة عن اجراءاتها بشأن اعادة مساهمة الولايات المتحدة في موازنة وكالة الغوث هو عدم استفادة فلسطينيي لبنان وسوريا منها. وظن البعض ان هناك حالة حرب غير معلنة بين الادارة الامريكية وهذين التجمعين اللذين يبدو انهما اصبحا يشكلان خطرا استراتيجيا على الامن القومي الامريكي يوازي في مفاعيله الاخطار التي تشكلها روسيا وكوريا الشمالية وايران. لكن لماذا هذا الموقف من هذين التجمعين بالذات بمعزل عن بقية التجمعات الفلسطينية الاخرى، وما الذي ستحققه الولايات المتحدة من عدوانها هذا على فلسطينيي سوريا ولبنان؟

المتابع لأوضاع فلسطينيي سوريا ولبنان وخصوصياتهما التاريخية، يدرك كم ان حق العودة متغلغل في الوجدان الجماعي للشعب الفلسطيني في هذين البلدين، رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشانها ورغم مراة الحرمان من التمتع بحقوق المواطنة. لكن هذا لا يعني للحظة ان التجمعات الاخرى في الاردن وفي الضفة الغربية وقطاع غزة وفي المهاجر الاجنبية ليست غيورة على حق العودة وليست بذات الحيوية والحماس في دفاعها عن حقوقها الوطنية وفي مقدمتها حق العودة.. بل على العكس من ذلك فاسرائيل وخبراؤها الاستراتيجيون والامنيون ما زالوا يعتبرون ان الفلسطينيين المتواجدين في فلسطين التاريخية، لاجئين ومواطنين، هم قنبلة بشرية ستبقى تشكل خطرا وجوديا عليها، لذلك وجب التخلص منهم بسياسات أمنية واقتصادية و تحريضية يشكل الاستيطان والحصار والقوانين العنصرية عناوينها الاساسية..

و لاعتبارات لها علاقة بظروف التجمعات الفلسطينية وضراوة القمع الإسرائيلي ضد فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزه، انطلقت شرارة الكفاح المسلح الفلسطيني من خارج فلسطين. وكان للاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا دور كبير في انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني، وتضاعف هذا الدور في مرحلة ما بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية.. ولئن كان لمخيم عين الحلوة في لبنان رمزية معينة باعتباره يشكل عنوانا لقضية اللاجئين وحق العودة، فقد كان مخيم اليرموك في سوريا الخزان البشري الذي غذى الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها.

لم يكن استهداف مخيم اليرموك وليد صدفة او نتيجة حادث عرضي، بل تم التخطيط لهذا الاستهداف بعناية شديدة وبشكل مدروس لما يمثله من تجمع وطني سياسي واجتماعي وثقافي وإعلامي وفني فلسطيني، هذا اضافة الى ان الفئات الوسطى من مهنيين وحرفيين وأكاديميين وتجار كانوا يتمركزون داخل المخيم، ما يؤكد بأن ما حدث اصاب بالضرر البالغ هذه الفئة وشكل ضربة كبيرة للنسيج الاجتماعي الفلسطيني ليس بالنسبة للمخيم فحسب بل ولكل الوجود الفلسطيني في سوريا .. لذلك ليس صدفة ان العدد الأكبر ممن شملتهم رياح الهجرة كانوا من هذه الفئة.. ولا داعي لنكرر القول بأن قوة أي مجتمع وصلابته تعتمد على صلابة ومتانة الفئات الوسطى.. لذلك يمكن تفهم الاسباب التي ادت الى الزج بالمخيم وبغيره من المخيمات في دائرة الصراع في سوريا، في محاولة للقضاء على ما نجح اليرموك في تجسيده كأحد العناوين الوطنية وكواحد من اكبر الخزانات البشرية السياسية والاقتصادية والثقافية الفلسطينية خارج فلسطين.

لذلك ليس مستغربا ان تستهدف الولايات المتحدة باجراءاتها هذين التجمعين البشريين نظرا لدورهما في الحفاظ على الهوية الوطنية وعلى حق العودة وابقاءه حيا حتى هذه اللحظة. ناهيك عن اهداف اخرى لم تغب عن تفكير ساسة البيت الأبيض ومنها:

 

١) الإيقاع بين تجمعات اللاجئين: بحيث تتحول المشكلة من مشكلة بين عموم اللاجئين والولايات واسرائيل الى مشكلة فلسطينية فلسطينية، خاصة عندما تنطلق مجموعات فلسطينية معينة تكون مدفوعة ربما من الخارج الى اعتبار احقيتها بالمساعدات او طرح المشكلة من زاوية من التجمعات له الحق بالمساعدات اكثر من غيره وغير ذلك من الاشكالات التي قد تبرز نتيجة الاجراء الامريكي وقد تكون مرسومة سلفا بهدف زعزعة تماسك اللاجئين والدفع نحو البحث عن حلول فردية لكل تجمع بعيدا عن الحل القائم على حق العودة الى الديار والممتلكات التي هجر عنها اللاجئون عام (1948) نتيجة عمليات القتل والإرهاب على يد العصابات الصهيونية…

 

٢) الترويج لفتنة بين اللاجئين وبعض الدول العربية: خاصة لبنان الذي يتمتع بخصوصية سياسية وطائفية معينة جعلته يعيش في هاجس مفتعل لدرجة المبالغة اسمه “التوطين”، مع كل ما يرافق ذلك من اجراءات وسياسات ومواقف تضع اللاجئين على هامش المجتمع، ما يولد نتائج وتداعيات تتعدى انعكاساتها الحدود الجغرافية للمخيم وتدفع الدول المضيفة الى اتخاذ اجراءات استباقية ضد اللاجئين بذريعة الحفاظ على الكيانية السياسية وعلى الأمن، بينما الهدف الحقيقي يكون تخفيف الوجود الفلسطيني ما امكن واستقبال اية استحقاقات قادمة بأقل عدد من اللاجئين.

ومع ان أصواتا سياسية وفكرية وروحية وازنة وذات تأثير ملموس في الحياة السياسية اللبنانية مثلا قد تنبهت الى ضرورة التعامل مع خطر التوطين بالموضوعية الكافية، لجهة التمييز بين المصدر الحقيقي للخطر وهو اسرائيل وبين الفلسطينيين، ضحايا التوطين الحقيقيين، بما في ذلك ابراز وحدة الموقفين اللبناني والفلسطيني في رفض التوطين، والتأكيد على ان حق العودة وما يترتب عليه من دعم الصمود الاجتماعي للاجئين هو الرد المنطقي على التوطين والبديل له، الا أن هذه المواقف السياسية الموضوعية لا تلغي وجود أصوات لا زالت ترى في الوجود الفلسطيني في لبنان نفسه الخطر الحقيقي على لبنان، وترى ان مجابهة هذا الخطر تستوجب الخلاص من هذا الوجود، عبر اعادة توزيعه على دول أخرى.

 

٣) عقاب اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا على موقفهما من الازمات الاقليمية والمحلية: مع ان السياسة التي اعتمدها الفلسطينيون في سوريا ولبنان هي موضع فخر لهم كونها جنبت مخيماتهم تداعيات الصراعات الاقليمية، الا ان هذا الموقف يبدو انه لا يروق للكثير من القوى الدولية خاصة الولايات المتحدة التي ارادت ان يكون للفلسطينيين في سوريا دورا الى جانب المجموعات المسلحة.. لكن ونتيجة للموقف الوطني والمسؤول باعتماد خيار النأي بكل الحالة الفلسطينية في سوريا بعيدا عن تداعيات الازمة السورية، فقد دفع الفلسطينيون في سوريا موقفا باهظا، سواء لجهة تدمير بعض المخيمات او لجهة دفع اعداد كبيرة الى الهجرة في اطار استهداف النسيج الاجتماعي للاجئين. وكان يمكن ان تكون الخسائر اكثر فداحة لولا هذه السياسة التي حافظت على الوجود الوطني للاجئين الفلسطينيين في سوريا..

وفي لبنان لم تختلف الصورة كثيرا، إذ وجد اللاجئون الفلسطينيون انفسهم امام مسؤولية الحفاظ على وجودهم وهويتهم، خاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وانقسام اللبنانيين الى فريقين سياسيين يسعى كل طرف لشد الفلسطينيين الى جانبه. فيما اتخذت الفصائل الفلسطينية بجميع مكوناتها سياسة النأي بنفسها بعيدا عن تداعيات الازمتين الاقليمية والمحلية.. وكان لهذا الموقف نتائج ايجابية لناحية الحفاظ على الوجود الوطني للاجئين وتعرية مواقف بعض القوى اللبنانية التي لم تتعاط مع الحالة الفلسطينية في لبنان الا باعتبارها اداة لتحقيق مشروعها في اطار الصراع الاقليمي.. وهذا ما اكدته بعض التسريبات الاعلامية عن طلب الرئيس الأمريكي من الرئيس الفلسطيني محمود عباس تدخل الفلسطينيين أمنيا في لبنان لصالح طرف ضد آخر وانحياز المخيمات في لبنان لصالح المشروع الأمريكي..

 

٤) الضغط على لبنان وسوريا ايضا للدخول في الحلف الأمريكي الذي تسعى الولايات المتحدة واسرائيل لبناءه في مواجهة ايران وسوريا وحزب الله. خاصة وان المشروع الأمريكي الاسرائيلي لا يمكن ان يكتب له النجاح بدون بعض الروافع العربية او اقله قطع مسألة التطبيع شوطا الى الامام، وهذا لن يحدث إلا بتهيئة الأرضية على المستوى العربي.

ففي سوريا ليس سرا الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في ادامة عمر الازمة السورية، وهو دور لم يعد مقتصرا على مجرد دعم لمجموعات مسلحة، بل بات جزءا رئيسيا من الازمة تترجمه مواقف عدد من المسؤولين الأمريكيين بأن الادارة الامريكية لا تريد تغيير النظام بل تغيير سلوكه، وهذا ما يفسر ايضا التوتيرات الامنية المتواصلة في مخيمات لبنان، والتي هي اشبه برسائل من قبل قوى محلية واقليمية ودولية مختلفة، خاصة ان الكثير من الاحداث الامنية دائما ما تحصل بالتزامن اما مع استحقاقات فلسطينية او لبنانية واقليمية والتي عادة ما تبدأ بتسريبات اعلامية سرعان ما تأخذ طريقها لحملات تحريضية ضد المخيمات والوجود الفلسطيني تحت عناوين السيادة والتوطين وغير ذلك..

 

٥) تجزئة قضية اللاجئين و فكفكة عناصرها: ان ما تريد الولايات تحقيقه هو ضرب المبدأ القائل بأن حق العودة هو حق جماعي ويتعلق بفكرة تقرير المصير. وقضية اللاجئين الفلسطينيين تستمد قوتها من اسلوب التعامل معها كملف واحد موحد، وهذا ما يطرحها على مستوى الحل السياسي الذي يتحرك بافق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بينما تجزئتها ووضعها ضمن فئة التجمعات السكانية، فهو ما يفتح المجال امام بحثها والبت بها على مستوى التأهيل والتوطين.. كما تستمد هذه القضية قوتها من التمسك الفلسطيني والعربي بثبات بحق العودة الذي يكفله القرار (194). لكن مشكلة المواقف العربية والفلسطينية الفعلية تكمن في ازدواجيتها او طابعها الملتبس: فالاردن يتكلم عن حق العودة ورهانه على التوطين. ولبنان جاد في رفض التوطين لكنه يقبل بالتهجير او التوطين في بلد غير لبنان، بل يدفع نحوه وغير ذلك من المواقف والاجراءات التي لا تساهم في حماية حق العودة.

وبالعودة الى اسباب تخصيص فلسطينيي لبنان واستثناءهم من المساهمة المالية الامريكية، فقد ابلغت الإدارة الأميركية مسؤولي وكالة الغوث بضرورة اجراء “اصلاحات” في عملها. وجاءت هذه الاصلاحات تحت عنوان “إحداث تغيير في المناهج الدراسية” لجهة شطب كل ما له علاقة بتخليد قضية العودة واللجوء وفقا لما ذكره رئيس وزراء العدو نتن ياهو، ما يعني ان التغيير المطلوب لن يطال فقط جمل ومصطلحات معينة بل تاريخ وجغرافيا فلسطين والمنطقة وعدم الاشارة الى كل ما يمكن ان يعتبر تحريضا بالمفاهيم الامريكية الاسرائيلية، وهذا ما يمس بقضايا وعناوين “حق العودة”، ” القدس”، المقاومة، الاحتلال، “الانتفاضة”، “النكبة” وغير ذلك من عناوين.

وقد سبق لبعض الدوائر في لبنان ان طرحت تغيير بعض المناهج التي تتضمن اشارات تعتبرها اسرائيل والولايات المتحدة تحريضا ضد اسرائيل وذلك في اطار مشروع ممول من الحكومة البريطانية، الامر الذي تطلب تدخل وزير التربية مروان حماده فقام بسحب هذا الامر متعهدا بعدم احداث اي تغيير على المناهج. هذا اضافة الى مؤتمر عقد في منطقة البحر الميت بمشاركة وكالة الغوث ومسؤولين غربيين اطلق عليهم اسم ” خبراء”، وبحث هذا المؤتمر في العناوين التي يجب العمل على تغييرها في المناهج التربوية للوكالة تحت عنوان ” اصلاح المناهج”.

هذه الاشتراطات يمكن معرفة اسبابها ونتائجها انطلاقا من فهم الاستراتيجية الامريكية في التعاطي مع جميع عناوين القضية الفلسطينية لجهة تبني الولايات المتحدة للمواقف الاسرائيلية وممارسة سياسة الابتزاز المالي مع عدد من المنظمات الدولية بدعوى “انحيازها لصالح الفلسطينيين”. لكن ما هو جديد على هذه المواقف هو الاشتراط بحصر المساهمة الامريكية في موازنة وكالة الغوث، اذا ما تراجعت الادارة الامريكية عن قرارها بوقف التمويل، في مناطق الاردن والضفة الغربية وقطاع غزه واستثناء منطقتي عمليات الوكالة في سوريا ولبنان. هذا ما نقل على لسان المتحدث الرسمي باسم (أونروا) الذي قال: إن “الإدارة الأميركية صرحت بأن استمرار تبرعها للوكالة منوط بإصلاحات تتوقعها من أونروا، كما حددت رغبتها بصرف تبرعاتها بدون إقليمي لبنان وسورية”.

ووفقا لارقام وكالة الغوث لعام 2017، فقد بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في قيود الوكالة (5.340.443) لاجئ موزعين على مناطق العمليات الخمس كالتالي: الاردن (2.175.491) نسمة، قطاع غزه (1.348.536) نسمة، الضفة الغربية (809.738) نسمة، سوريا (543.014) نسمة ولبنان (463.664) نسمة. وبلغت موازنة الصندوق العام لهذه الاقاليم (760) مليون دولار كانت حصة الولايات المتحدة منها (130) مليون دولار. وبالتالي فان عدد اللاجئين المستهدفين بالاستثناء، الاستهداف، الامريكي هو (1.006.678) لاجئا، اي ما نسبته (18.8) بالمائة من مجموع اللاجئين.

وبعيدا عن الارقام، وفي التدقيق في سياسات ومواقف الولايات المتحدة، يمكن العثور على اسباب كثيرة تدفعهما الى التركيز على هذين التجمعين الفلسطينيين باعتبارهما يشكلان عقدة واضحة في تمرير المشروع الامريكي، خاصة وان المكانة القانونية للاجئين في هذين البلدين ما زالت حتى هذه اللحظة مصانة ومحفوظة ولم تتأثر ببعض الاعتبارات السياسية والقانونية كما هو الحال مثلا بالنسبة لبعض التجمعات الفلسطينية الاخرى. ففي الاردن والاراضي الفلسطينية المحتلة يحمل جميع الفلسطينيين اما الجنسية الاردنية باستثناء نحو (650) الف نسمة ما زالوا لاجئين، او رقما وطنيا صادرا عن السلطة الفلسطينية، وبالتالي تعتقد الولايات المتحدة واسرائيل ان قضية تلك التجمعات يمكن مناقشتها وتسوية امرها مع السلطة الفلسطينية التي ارسلت اكثر من اشارة ايجابية يمكن البناء عليها. اما بالنسبة للبنان وسوريا فان الادارة الامريكية غير قادرة حتى اللحظة على فرض مشروع يحظى بثقة وقبول اللاجئين اولا وثانيا موافقة هذين البلدين اللذين ما زالا حتى اللحظة في حالة حرب مع اسرائيل..

لذلك تجهد الولايات المتحدة واسرائيل الى تقديم تعريف جديد للاجئين الفلسطينيين يقود الى انقاص العدد قدر الامكان معتمدين في ذلك على التعريف الذي تقدمه اتفاقية الامم المتحدة للاجئين لعام (1951) ويعتمد على فكرة الحماية كأساس (الجنسية). وبالتالي فان اللاجئ، وفقا للاتفاقية، هو الذي أصبح بدون حماية وطنية، الأمر الذي يستوجب أن تتم حمايته دوليا. لكن هذه الحماية، وبالتالي، صفته كلاجيء، تسقطان عنه إذا إكتسب جنسية جديدة وأصبح يتمتع بحماية الدولة التي منحته هذه الجنسية..

هذا ما قصده رئيس وزراء العدو نتن ياهو حين دعا الى تصفية اعمال وكالة الغوث واحالة صلاحياتها الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. لذلك فان من وظائف الموقف والاجراء الامريكي هو التركيز على فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزه والاردن واهمال اوضاع فلسطينيي لبنان وسوريا بهدف خلق امر واقع تعجز فيه وكالة الغوث عن الاستجابة لاحتياجات هذين التجمعين فيكون الحل بفرض “امر واقع” هو تدخل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي تتدخل تحت عنوان “حقوق الانسان” وباعتبار ان اللاجئين اصبحوا دون حماية، حتى لو كانت الحماية في هذه الحالة الحماية الاقتصادية والاجتماعية التي تختلف عن حماية المفوضية السياسية..

هنا يبرز مؤشران يبعثان على القلق:

المؤشر الاول ما قامت به المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من اجراءات استباقية استعدادا لتصفية اعمال وكالة الغوث وشمول اللاجئين الفلسطينيين بحمايتها، مستفيدة بذلك من نص في اتفاقية عام (1951) يقول “ان هذه الاتفاقية لا تنطبق على الاشخاص الذين يتمتعون بحماية أو مساعدة من هيئات أو وكالات تابعة للأمم المتحدة غير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. فإذا توقفت هذه الحماية أو المساعدة لأي سبب دون أن يكون مصير هؤلاء الأشخاص قد سوي نهائيا (طبقا لما يتصل بالأمر من القرارات التي إعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة)، يصبح هؤلاء الأشخاص جرّاء ذلك مؤهلين للتمتع بمزايا هذه الاتفاقية”..

ولهذه الغاية اصدرت المفوضية عام (2017) وثيقة هامة تحت عنوان “مبادئ وتوجيهات حول الحماية الدولية” اوضحت فيها طريقة عملها والمداخل القانونية التي من خلالها يمكن للاجئين الفلسطينيين ان يستظلوا بحماية المفوضية العليا حتى لوكان هذا الامر يخالف رغبة اللاجئين ويخالف كذلك نصوص القرارات الدولية خاصة القرار (194) وغيره من عشرات القرارات التي تؤكد وتدعم حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، كما تتعارض كذلك مع قناعات مسؤولي الامم المتحدة وفي مقدمتهم الامين العام انطونيو غوتيريز الذي وان رفض دعوة نتن ياهو بشأن احالة مهام وكالة الغوث الى المفوضية العليا، الا ان هناك من يعمل ليل نهار لتهيئة الارضية من اجل نقل مهام وكالة الغوث الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بذريعة عدم جواز ترك اللاجئين الفلسطينيين دون حماية..

المؤشر الثاني هو مواقف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في مؤتمر دعم وكالة الغوث الذي عقد في العاصمة الايطالية منتصف شهر آذار (2018) والتي دعا فيها وكالة الغوث بشكل صريح الى شطب كل لاجئ فلسطيني يغادر الاراضي اللبنانية ويحصل على جنسية جديدة وذلك بهدف تخفيف العبء عن موازنة وكالة الغوث..

يبدو ان موقف الوزير باسيل تحكمها اعتبارات اقتصادية وليست قانونية، وإن هدفه، كما قال، وضع موازنة لوكالة الغوث تستجيب فقط لحاجات المقيمين في لبنان، وغير لبنان، بمعزل عن التعريفات القانونية للاجئ التي ما زالت تحفظ للاجئ الفلسطيني مكانته القانونية بغض النظر اذا ما كان مقيما في لبنان ام لا..

والمكانة القانونية للاجئ لا تتأتى فقط من كون اللاجئ مسجلا في قيود الوكالة ام لا، بل معطيات اخرى تتجاوز حدود عمل ومهام وكالة الغوث التي ليس من صلاحياتها شطب قيود اللاجئين من سجلاتها، بل ان وظيفتها الاساس هي تسجيل اللاجئين باعتبارها وصية على «أرشيف اللاجئين» الذي يشمل أكثر من خمسة ملايين شخص ينطبق عليهم تعريف اللاجيء بغض النظر اذا ما كانوا يقيمون في مناطق عمليات الاونروا ام خارجها.

اما ربط الاستفادة من الخدمات بشرط الاقامة في واحدة من مناطق عمليات الاونروا الخمس فهدفه اقتصادي فقط ولا يمس بأي شكل من الاشكال المكانة القانونية للاجئين.. وفي جميع الحالات فان من يستفيد من الخدمات، بشكل فعلي، هم اللاجئون المقيمون، وان تسجيل اللاجئين المقيمين خارج مناطق العمليات لقيودهم في سجلات الاونروا هو فقط لضمان حفظ حقوقهم المستقبلية السياسية والاقتصادية والقانونية.. ولهذا السبب استثنت اتفاقية عام (1951) بشكل صريح ومقصود اللاجيء الفلسطيني من تعريفها، نتيجة مراعاة الظروف السياسية التي تحيط بقضية اللاجئين الفلسطينيين وتمييزهم عن حالات اللجوء العامة، من خلال التأكيد على مسؤولية الاونروا ودورها في تأمين المساعدة لهم. وقيمة هذا وإيجابيته تتمثل في صون قضية اللاجئين الفلسطينيين من مخاطر الاذابة والتهميش، حيث ينطوي القبول بالتعريف العام للاجئين على مخاطر إضاعة حقهم الأساسي في العودة إلى الديار والممتلكات..

رغم ذلك، فتعريف الاونروا حكمته دوافع واعتبارات إقتصادية ولا يمكن الاعتماد عليه  لتحديد من هو اللاجيء، بالأبعاد السياسية والقانونية التي يتضمنها هذا التعبير على خلفية التخوفات المعبر عنها في أوساط اللاجئين، من أن تشكل وكالة الغوث رأس حربة لمشاريع سياسية تستهدف قضية اللاجئين وحق العودة من مدخل تقليص خدمات وكالة الغوث. وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد صحة هذه التخوفات، خاصة عندما يتم الربط، وبشكل متعمد، بين الخدمات التي تقدمها وكالة الغوث وأعداد المسجلين في قيودها:

في هذا الإطار يأتي القانون الذي أقرته لجنة الميزانيات في مجلس النواب الأمريكي بشأن تعديل تمويل المساعدات الخارجية لعام 2013، الذي يلزم وزارة الخارجية بالإبلاغ عن عدد الذين يستحقون المساعدات من إجمالي اللاجئين الفلسطينيين الذين يتلقون مساعدات من وكالة الغوث. ويسعى هذا القانون لحصر أعداد اللاجئين الذين تضاعف عددهم من 750 ألف نسمة في عام 1950 إلى خمسة ملايين نسمة اليوم.

الا تشكل مواقف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل استجابة وتطبيقا امينا لهذا القانون الامريكي، ام انها مجرد تقاطعات جاءت بمحض الصدفة؟ ولا يفيد هنا محاولة البعض التخفيف من التداعيات السلبية لمواقف باسيل على المكانة القانونية للاجئ وحق العودة التي كان يمكن تداركها بشكل مسبق لو كان هناك لقاءات وتنسيقا لبنانيا وفلسطينيا. وبالتالي فان حل مثل هذه الاشكالات مستقبلا هو بتنسيق الاطراف العربية لمواقفها قبل اي استحقاق دولي لضمان تقديم مواقف عربية منسقة ومنسجمة مع بعضها البعض، فهذا ما يعطي المواقف العربية قوتها، ويمنع الولايات المتحدة واسرائيل من الاستفراد بأي طرف عربي..

ان خطورة مواقف وزير الخارجية اللبناني تتمثل في كونها المرة الاولى التي ينبري فيها مسؤول رسمي عربي الى طرح تصورات لحل مشكلة اللاجئين بعيدا عن الاطار العام لحل قضية اللاجئين والمعبر عنها في القرار (194) والذي ما زال يعتبر بنظر الحالة الرسمية العربية اساس حل قضية اللاجئين الفلسطينيين.. لذلك فان اخراج قضية اللاجئين من كونها قضية واحدة وموحدة الى اطار الحلول الفردية والقطرية من شأنه ان يمس بهذه القضية التي تكتسب قوتها من كونها قضية موحدة لا تقبل التجزأة..

ومعروف ان من ضمن النجاحات التي حققتها اسرائيل سابقا عبر استراتيجيتها التفاوضية مع العرب والفلسطينيين كان فك ارتباط الجبهات العربية بالقضية الفلسطينية وتقسيم قضايا الصراع بين اسرائيل وكل دولة عربية على حدى. وجاء اتفاق اوسلو عام 1993 ليتجاهل قضية اللاجئين ومكانتها السياسية والقانونية حين احالها الى اطار تفاوضي تشكل من عدة اطر ومسارات وجعلها قضية اقليمية عربية- اسرائيلية.

وخلال الجولات التفاوضية واللقاءات السياسية والبحثية والاكاديمية الفلسطينية العربية والاسرائيلية والدولية، تبلورت سيناريوهات تعترف بصعوبة عودة جميع اللاجئين وفقا للقرار 194، والاعتماد بدلا من ذلك على الحلول “الواقعية” البديلة. ومن هذه الحلول عودة رمزية الى “اسرائيل”، وعودة جزئية الى اراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية وتوطين الباقي في اماكن تواجدهم.. وفي اطار اقتراحات العودة الجزئية (سواء الى “اسرائيل” او الى اراضي الدولة الفلسطينية) اعطيت الاولوية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، نظرا للواقع الصعب الذي يعيشه هذا التجمع وانعكاس عملية التوطين على التوازنات الداخلية.

ورد مثل هذا الطرح في ايلول عام (1999) على لسان وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت، ثم خلال مفاوضات كمب ديفيد الثانية (تموز 2000) حيث كانت دعوة الى اعطاء الاولوية بالعودة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهو الامر الذي جعل بعض الاصوات اللبنانية تعلن مفاخرتها بسياسة التضييق التي يعتمدها لبنان تجاه اللاجئين المقيمين على ارضه، خاصة وان هذه السياسية، من وجهة نظر اصحابها، اعطت نتائج ايجابية لجهة وضع قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على جدول اعمال المجتمع الدولي وبالتالي تفهم هذا المجتمع بصعوبة التوطين في لبنان، رغم انها ما زالت مجرد عصافير على شجرة الوعود الامريكية والغربية..

ان حق العودة بالنسبة للفلسطينيين هو المتمم لمبدأ تقرير مصيرهم، وتجزئة قضية اللاجئين لا يمكن ان تصب الا في مصلحة اسرائيل التي دائما ما كانت تسعى الى فكفكة هذه القضية وجعلها قضية هامشية. وان تفرد كل دولة عربية بحل مشكلة اللاجئين على ارضها سوف يضعف الموقف الفلسطيني اولا والعربي ثانيا. ويصبح شعار “رفض التوطين” لا يساوي شيئا ما لم يكن مقرونا بشعار “رفض التهجير” وبسياسية فعلية تحافظ على حق العودة وترفض اية حلول بديلة مهما كانت، سواء كانت في دول عربية او اجنبية، واعتبار التوطين مشروعا اسرائيليا واميركيا يراد منه تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين كمقدمة لتصفية الحقوق الاخرى.

 

*باحث فلسطيني / لبنان

فتحي كليب

باحث فلسطيني / لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *