أقلام الوطن

التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا (2-5)

د. عادل سمارة

 

 مدخل

فرض وباء كورونا علينا جميعاً التعاطي معه كلٌ طبقاً لتخصصه وانتمائه. ولعل المجالين الأكثر إلحاحاً للتعاطي معهما هما:

  • المستوى الصحي فرديا والطبي جماعيا
  • والمستوى الاقتصادي.

سيكون حديثي في المستوى الاقتصادي حيث لاحظت بأن تركيز معظم الكتابات هو على المستوى العالمي للاقتصاد: حرب التجارة، حرب العملات، مؤامرة الحكومة العالمية لفرض العملة الرقمية وشراء الأصول عالميا قبل قتلها للدولار،  واضطرار الراسمالية في المركز للاستيراد من الصين وقلقها من سيطرة أكثر للصين…الخ.

 

 (5-2)

عوامل داخلية تعيق التنمية

 

احتجز المركز التصنيع

والتحول الديمقراطي في المحيط

يختلف المفكرون في توصيف أسباب التخلف في بلدان المحيط، حيث يعطي بعضهم الأولوية للغزو الإستعماري والأشكال المتجددة له، بينما يعطي آخرون الأولوية لعوامل وتحديداً قوى اجتماعية طبقية محلية.

وقد يكون صحيحاً التوصل لقناعة أن المسألة هي علاقة جدلية بين العاملين حيث يفترض واحدهما الآخر ويفرش له أسباب تأثيره، وهو ما تثبته تجارب حقبة ما بعد الإستعمار.

قد تكون مسألة التنمية والحريات والديمقراطية أفضل ما يؤكد العلاقة الجدلية السوداء بين العاملين الداخلي والخارجي في الاحتجاز المقصود والمخطط له للمحيط. فرغم مزاعم كثير من عتاة رأس المال بدور تقدمي لرأس المال إلا أن الحقيقة المقبولة عالمياً أن المركز الرأسمالي الغربي أسس لتخلف المحيط وتابع ذلك التأسيس وما زال يرعاه. 

لا يمكن تجاهل أن الإستعمار الرأسمالي الغربي نهب ثروات المحيط، وأغرق أسواقه بمنتجات الغرب الكثيفة مما خلق الصناعات القائمة فيه، وعيَّن أو دعم قوى محلية موالية له كي تتحكم بالمجتمع والإقتصاد في المستعمرات، وعمًّق ارتباط هذه القوى به وواصل حمايتها بعد رحيله. والوطن العربي حالة نموذجية في هذا الصدد. 

في مناخ تخلف اقتصادي ونظم سياسية متخارجة و عميلة  للأجنبي، كيف يمكن توليد حريات للمواطنين؟ ما الذي يغري هذه الأنظمة بتوفير حريات للمواطنين. ما الذي يدفعها للتحول الديمقراطي؟ 

ربما تسعفنا في هذا الصدد تجربة الديمقراطية السياسية في بلدان المركز. في حقبة التحول إلى الرأسمالية في أوروبا الغربية، لم يكن هناك مركز استعمار لينهبها ويهدد تطورها، وهذا بعكس المحيط الذي خضع للإستعمار، وواصل هذا الإستعمار نهبه وبالتالي احتجاز تطوره حيث حوله إلى اسواق لمنتجاته مما يؤكد أن مصلحة المركز كامنة في تخلُّف المحيط. هذا جوهر الإستقطاب الذي هو الطابع الأساسي لرأس المال. ففي المركز الرأسمالي الغربي، كان لا بد للنظام الحاكم من توفير حريات معينة وعلاقات ديمقراطية بالمواطنين لكي يتجنب الإضرابات العمالية التي بحصولها تعيق خط الإنتاج، مما يؤثر على معدل الربح الذي إما أن يكون النظام الحاكم شريكاً فيه، أو حامياً وخادماً للطبقة التي تملك.

ما الذي يدفع أنظمة بلدان أعاق تصنيعها أو احتجزه الإستعماروشاركته في ذلك نفس هذه الأنظمة لتقدم تحولاً حرياتياً وديمقراطياً طوعياً للشعب؟ ما الذي يدفع النظام الحاكم لكل هذا؟ لا شيء سوى النضال الوطني وخاصة الطبقي. وسيكون هذا النضال ضد الأجنبي لأن مصالحه راسخة في النظام، وضد المحلي لأن مصالحه متخارجة لدى الأجنبي، ومن هنا صعوبة المهمة. كما تزداد صعوبة لأن النظام المحلي عادة ما يقيم جهازاً وظيفياً بيروقراطياً هائلاً من حوله. فهو مصدر التمويل، كما أن البلد تعاني البطالة فلا بد من تخفيفها. والأهم من ذلك أن هذا التوظيف يخلق جيشاً احتياطياً لحماية النظام. فمن يحظى بوظيفة يرى في وضعه أفضل ممن يعاني البطالة، فيصبح بدرجة أو أخرى مدافعاً عن النظام. 

من هنا تبدو أهمية الحركات الثورية التي ترفع وعي المواطن بما يتجاوز رشوة النظام له بوظيفة، أو إرهاب النظام له بالعصا. ويبقى المقصود هنا إيصال الفكرة المركزية وهي أن نضال أمم المحيط هو نضال ضد النظام الرأسمالي العالمي بمكونه الأساس: الطبقات الحاكمة هناك، ومكونه التابع الطبقات الكمبرادورية الحاكمة في المحيط. 

 

التكاثر وتحديد النسل

يشكل النمو السكاني العالي تحدياً لبلدان العالم الثالث، ومنها الوطن العربي. فالمفترض في كل بلد أن تتمكن قطاعات الإنتاج من تشغيل قوة العمل. وهذه ليست القاعدة في بلدان المحيط. فالنمو السكاني المنفلت يتجاوز بدرجات كبيرة النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل. وهي حالة تعيد إنتاج نفسها بشكل متواصل ومتزايد. وتكون النتيجة زيادة في معدل البطالة، وتمكيناً لرأس المال من استغلال العرض العالي للعمل كي يدفع أجوراً ادنى. واستمرار المنافسة بين العمال على مواقع العمل مما يزيد الضغط على الأجور، ويضعف الروح النقابية. 

وعليه، فإن قيام أنظمة المحيط بتسهيل فلتان النمو السكاني إنما هو سياسة ضد التنمية وتعميق للتخلف، ولا علاقة لها بالأمور الدينية كما يزعم الكثير من الأصوليين.

أوضحت تجارب الأمم خلال القرن الماضي، بانه ليس شرطاً أن يقود الفقر والحرمان إلى الثورة، ولذا، فقد اهتزت النظرية الكلاسيكية في الثورة والتي جادلت بأن الفقر هو مشروع أولي للثورة. من هنا، فإن كثرة السكان هي مثابة ضغط على الموارد، وخاصة في البلدان شحيحة الموارد، وهذا يخلق إشكالات متعددة، تُبعد البلد عن الثورة أكثر مما تقربها من الثورة.

يقود الفقر والبطالة إلى الزج بمختلف أفراد الأسر الفقيرة في سوق العمل لتعويض النقص في الدخل مما يوقعهم جميعاً تحت طائلة الاستغلال و بأجور ضئيلة مما يشعرهم بمزيد من المرارة. ويكون التأثير الأخطر في هذه الحالة على الأبناء الذين يتسربون من المدارس ليقعوا تحت استغلال متعدد الأوجه، فينشؤون كارهين للمجتمع وغير راضين عن ابويهم، مما يضيف إلى تعاسة هؤلاء كماً آخر ولكن هذه المرة من داخل الأسرة التي يُفترض أنها ملاذهم عند الهرم. 

وهكذا، فإن الأحاديث المضللة في تقارير البنك الدولي والتنية البشرية ومنظمات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن ان مجتمعات المحيط هي مجتمعات شابَّة هي أحاديث خادعة. فالأهم في هذا الصدد هو وجود شواغر عمل للشباب إناثاً وذكوراً. فالنسبة العالية للشباب مقموعة بالفقر قد لا تتحول إلى قوة ثورية، بل قد تتحول إلى جيش عمل احتياطي ينافس الذين يعملون رغم قساوة ظروف عملهم. كما أن الثورة التعليمية التي حصلت في العالم الثالث، وهي من إيجابيات دولة ما بعد الاستعمار كما في مصر الناصرية، قد خرَّجت متعلمين وليس ثوريين يحمون الثورة التي أتاحت لهم فرص التعلُّم. 

 

النصف يحتل النصف الآخر

منشغلة مجتمعات كثيرة في العالم باحتلال اجتماعي داخلي، وهو احتلال كافٍ وحده لاحتجاز التطور الثوري والتغيير الإجتماعي وهو الإحتلال على أساس النوع الإجتماعي. فنضف المجتمع يحتل عملياً النصف الآخر، يحتل الذكر الأنثى، الإحتلال البطريركي. وحين يكون المجتمع منشغلاً إلى هذا الحد داخل الأسرة، ما هي الطاقة المتبقية لديه كي يناضل ضد الاحتلال الأجنبي، وضد الاستعمار بطبعاته العديدة، وضد أنظمة الحكم التي تمثل الإحتلال الطبقي. 

هذا التقاطع أو التحالف البطريركي، القومي والطبقي ضد المرأة أو على حسابها، يمثل عائقاً اساسياً للتنمية وخاصة في بلدان العالم الثالث ومنها بوضوح الوطن العربي. وهو تحالف ضد التحولات الحرياتية و الديمقراطية للمجتمع بأسره.

إن الوصول إلى المساواة العملية على أساس الجنس لا يأتي بالقوانين والإجراءات، بل هو سيرورة متواصلة من التحولات في الواقع المادي، في التنمية تحديداً، وهذا ما لا تحرص عليه الطبقات الحاكمة في المحيط. ومن هنا تبرز أهمية الحركات السياسية الشعبية والمنظمات القاعدية التي تُحلُّ عامل الوعي ليعوض التغييب المقصود للعامل المادي الذي يُرسى أُسس ضرورة تشغيل المرأة مما يحقق لها حقوقاً مادية على الأرض. ولن تكون هذه مهمة سهلة لأنها ستقاتل “التحالف الرأسمالي/الذكوري” بمكوناته الثلاثة: البطريركية، والطبقية المحلية والقومية/الطبقية الأجنبية.  

 

الباب الثاني:

مشروع التنمية بالحماية الشعبية

 

يتكون هذا المشروع من مكوِّنين هما، وصف تصرف المواطن الفلسطيني تحت الإحتلال خلال الإنتفاضة الأولى، اي دفاعه الذاتي واستراتيجيات البقاء التي اتبعها، والسياق النظري الذي استولدناه من هذه التجرية واسميناه “التنمية بالحماية الشعبية”.

وفي حين أن هذا المشروع قد طُوِّر  وطبُِّق إلى درجة ما من قبل وعلى يد الطبقات الشعبية خلال الإنتفاضة، فإنه إلى درجة معينة، يمكن تطبيقه في عدة اقطار عربية وعالمثالثية بما هي ذات تشكيلات اجتماعية اقتصادية متشابهة الخواص مع المناطق المحتلة، بما في ذلك كون هذه البلدان حاضعة لمستوى من الإحتلال لا يختلف إلا في الإستيلاء الإستعماري الإستيطاني على الأرض. 

التنمية بالحماية الشعبية مشروع “موديل-نموذج” عالمثالثي يمكنه مواجهة ومجابهة مشروع القطاع العام الرأسمالي المعولم الذي فرضته دول المركز. إن رأس المال في هذا السياق هو علاقة اجتماعية معولمة، ما فوق قومية، هو سياسة الطبقات الحاكمة في المركز والمحيط.

هذا الموديل مبادرة شعبية، هي بشكل خاص من الطبقات الشعبية ضد رأس المال، وإن بدا هذا المشروع ضد الإحتلال. ولعل ما يؤكد ما نقول أن الغدر بهذا المشروع -الموديل تم بعقد اتفاق أوسلو الذي هو: “سلام رأس المال”.  إنه نموذج جديد من حرب الشعب، إنما بأوسع من المحتوى الذي قصده ماو تسي تونج. وعلى ضوء السياسات الفاشية التي يتبعها رأس المال على صعيد عالمي، فإن السياسة الأكثر نجاعة في المواجهة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، هي التنمية بالحماية الشعبية.

ولكن، لماذا يقوم رأس المال، وخاصة ذلك الذي في الولايات المتحدة بشن حربين، وربما أكثر في نفس الوقت [7] ، واحدة داخل الولايات المتحدة نفسها والأخرى حرب على صعيد عالمي ليست العراق ولا أفغانستان هنما آخر ضحاياها. 

هل هناك أسباب أخرى غير مصالح رأس المال؟ بالطبع لا. فطالما أن الطبقات الحاكمة على الصعيد العالمي لا تقف في مواجهة الحروب الخارجية التي تشنها الولايات المتحدة، فإن هذه الطبقات إما مستفيدة من هذه الحرب، أو غير مقتنعة بهيمنة الولايات المتحدة، وليس لأنها ضد تلك الهيمنة. وعليه، فإن المقاومة الوحيدة الممكنة ستكون تلك التي تمارسها شعوب المركز والمحيط. وأحد مستويات هذه المقاومة هي التنمية بالحماية الشعبية. من المؤكد أن مقاومة الطبقات الشعبية في المركز مختلفة. فقد تأخذ شكل حرب، صراع طبقي ضد الطبقات الراسمالية الحاكمة. ويبدو أن الموجة الأحدث لهذه المقاومة قد بدأت منذ سياتل، والتظاهرات ضد الحرب والعولمة والتي يمكن تطويرها لتصبح مقاومة طبقية اجتماعية وذلك طبقاً لمنحاها العام. 

وبكلمة، يتجه العالم، أكثر من أي وقت مضى، للانقسام على أسسٍ طبقية، أي الطبقات 

الشعبية والطبقات الرأسمالية. ففي حين أن المقاومة الشعبية في المستوى الإجتماعي-الإقتصادي هي التنمية بالحماية الشعبية ضد إستغلال المحيط على يد القطاع العام الرأسمالي المعولم، تناضل الطبقات الشعبية في المحيط ضد نفس الطبقات الرأسمالية، ولكن بما تأتى لها من وسائل وما صاغت من استراتيجيات. 

وإذا ما كانت مقاطعة منتجات الإحتلال في المناطق المحتلة عام 1967 ممكنة، فلِمَ لا تكون هذه المقاطعة ممكنة في البلدان العربية التي هي مستقلة سياسياً على الأقل. وفي الحقيقة، فإن ذلك بوسع الطبقات الشعبية في كل مكان. إن هذه الإمكانية من جهة وتطبيقها من جهة ثانية هي خطوة باتجاه حرب الشعب، حيث بوسعها شن هذه الحرب وتطويرها إلى مستوى أعلى. وفي هذا المستوى، فإن عامل الوعي متمفصل مع الجاهزية للنضال في نطاق الطبقات الشعبية، إضافة إلى دور مجالس العمال والاتحادات العمالية في التثقيف والتحشيد والتعليم والتجنيد. فمن الضروري في حرب الشعب هذه توفر الجاهزية والشجاعة والوعي لإنجاز هذه التضحيات. إن الوعي بمن هو عدو الشعب والشجاعة في التضحية لصالح الشعب اساسية في هذه الحرب. وفيما يخص موضوع هذا النموذج، لا سيما وعي كيف يتم الإستهلاك والجرأة والإصرار على تغيير نمط الإستهلاك البائس الدارج هو جزء هام من الهدف. 

فعلى الصعيد العربي، يمكن تبني هذا النموذج من قبل الطبقات الشعبية العربية. ويمكن في هذا المستوى البدء بتبني فكرة مناهضة التطبيع ومقاطعة منتجات المركز الرأسمالي العالمي وخاصة الولايات المتحدة بما هي نظام يمارس العدوان على الوطن العربي علانية. وبصورة أوضح، فإن على الطبقات الشعبية العربية كي تنجز التنمية والوحدة، ان تقوم بمقاطعة المنتجات المستوردة من المركز الرأسمالي المعولم وذلك سواء بإنتاج ما يمكن إنتاجه محلياً أو استبدالها من دول صديقة. لا بد من آليات وعي تكشف وتؤكد للطبقات الشعبية جوهر العلاقة الحميمة والصميمية بين مركز النظام الرأسمالي العالمي وبين الكيان الصهيوني الاشكنازي، وأن راسمالية هذا الكيان هي شريك، وإن كان صغيراً، في الشراكة الراسمالية الهائلة على صعيد عالمي، وهذا ما يمكن ان يقود إلى تصليب المقاطعة ومناهضة التطبيع مع المركز ومع الكيان الصهيوني. 

لكن مخطط نموذج التنمية بالحماية الشعبية، وإن كانت ركائزه المبدئية واحدة، ليس محصور اً في ما تبلور في الأرض المحتلة، بل يمكن لكل بلد عربي أن يطوره طبقاً لظروفه الخاصة.

إن مناهضة التطبيع والتمسك بالمقاطعة هي في حد ذاتها محفزات لمشروع تنموي .فهي تخلق مقدمات للتنمية بالحماية الشعبية، ومن هذه المقدمات الضغط على أنظمة الحكم بتوفير بدائل لما تتم مقاطعته. وهي إن رفضت، اي هذه الأنظمة، تكون قد وضعت نفسها في مواجهة المواطنين عامة وكافة، وهذا بحد ذاته مدخل أفضل لحرب الشعب. فبوسع هذه الأنظمة الاستيراد، ولكن ليس بوسعها فرض الاستهلاك على المواطن، وحين تحاول إرغامه على استهلاك ما لا يريد تكون قد تدخلت في صلب حياته اليومية والشخصية واختياره المفترض أن يكون حراً حتى في ظل أعتى أنظمة الاستبداد.  وحين تمارس الأكثرية الشعبية كلاً من المقاطعة ومناهضة التطبيع، فهي إنما تمارس وضع اسس استراتيجية تنموية عربية محمية من الطبقات الشعبية. وهذا يؤكد أهمية وصول المواطن إلى وعي بماذا وكيف يستهلك وتمسكه بإنتاج ما يريد ومعرفة مصدر ما لا ينتجه.

  وفي حين تقوم الأنظمة العربية الحاكمة بحرب أهلية دائمة ضد الطبقات الشعبية سواء بالقمع أو الإستغلال او التفريط أو الفساد، واحتجاز التكامل الإقتصادي، والسوق العربية المشتركة، والوحدة العربية، والتأسيس لعداء دائم بين العرب والأقليات الشريكة… فلا يمكن لهذه الأنظمة الإستمرار في ذلك إلى الأبد، ويجب أن لا تتمكن من ذلك الاستمرار.

فلا يمكن لشرطة هذه الأنظمة أن تدخل كل مطبخ وكل منزل لإرغام ربات البيوت على استهلاك السلع المستوردة. لا شك أن طبقة الكمبرادور سوف تستأنف الإستيراد، ولكن المستهلكين بوعي سوف يلقنونها درساً مختلفاً هذه المرّة، درساً مرّاً حينما تتعفن مستورداتهم على رفوف البرادات.ّ بهذه الطريقة فقط، سيضطر هؤلاء للاستثمار بما يلائم الطلب الجديد. ولن يكون بوسع جيش وشرطة النظام أن يغلق مزرعة أو مصنعاً تنتج بدائل للواردات. إن مقاطعة منتجات العدو، والتوقف عن استيراد منتجات الدول الصديقة أو العادية، أمر ممكن، وهذه المقاطعة و/أو التوقف ممكنة وهي بحد ذاتها آلية لتشجيع الاستثمار المحلي. 

وينطبق الأمر نفسه على أنشطة مناهضة التطبيع ولا سيما مناهضة التطبيع الإقتصادي لأن الاستهلاك هو كذلك قرار محلي داخلي والأهم ذاتي. يعني الاستهلاك الواعي إزاحة الوسيط التجاري كطفيلي على الصعيد المحلي و الكمبرادور على الصعيد الخارجي. ليس مستغرباً أن مقاطعة منتجات المركز الرأسمالي ممكنة على صعيد بلدان العالم الثالث (المحيط). وليس شرطاً أن يتم تطبيقها بنفس المعايير وبطريقة متيبسة. وهذا يرتقي بالحوار حول التنمية بالحماية الشعبية لتكون مساهمة اساسية في التنمية المحلية عامة، والاعتماد المناطقي على الذات والثورة العالمية من جهة ثانية. ومرة ثانية، فإن هذا النموذج هو تحدٍ للدور المتغوِّل للقطاع العام الرأسمالي المعولم.

ولنسأل أنفسنا السؤال التالي: ما هو جوهر العولمة من وجهة نظر الطبقات الحاكمة؟ ونقصد هنا المكونين لهذه الطبقات الحاكمة، أي الرأسماليين من جهة وأولئك الذين في السلطة من جهة ثانية. فهل جوهرها شيء غير سلخ الحد الأقصى للربح، وتحرير التجارة الدولية؟ هل هي غير “شرعنة” غزو أسواق المحيط وسلخ الفوائض منها وتسخير قوة العمل هناك؟ 

يصر المركز على ضمان تدفق الفائض إليه من المحيط بمختلف الطرق، كالتبادل اللامتكافئ، أو التبادل اللامتكافئ بقوة السلاح كذلك. أما مثال العراق فهو الاحتلال المباشر حيث تصر الإمبراطورية في طور التكوين على امتلاك نفط العراق، بل ومختلف موجوداته. وعليه، فإن اية محاولة لوقف نزيف فوائض المحيط إلى المركز هو مثابة تكثيف التوتر الإجتماعي داخل بلدان المركز عبر تقليص معدل تدفق الأرباح إلى هناك. إنه محاولة شعبية من المحيط لتقريب حصول الثورة في المركز. إن تقليص تدفق الفائض إلى المركز يقود الطبقات الحاكمة هناك إلى تقليص الخدمات الإجتماعية والضمانات للمواطنين، ولا سيما الطبقات الشعبية، وبزيادة الضرائب وتقليص ميزانيات التعليم…الخ وهذه كلها مثابة الحرب الداخلية التي تشنها الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة. وهذه بدورها لا بد أن تزيد الإحتجاج الإجتماعي، وعدد المنخرطين في الحملات الشعبية ضد الحرب وضد العولمة، والتي هي في التحليل الأخير ضد الرأسمالية. وهذا يزيد من تحويل حالة المركز إلى وضعها الطبيعي أي صراع رأس المال والعمل، وعليه يميل رأس المال لانتهاج الفاشية مما يدفع العمل ليكون ثورياً وأممياً.

وطالما تواصل تراجع دفوقات فوائض المحيط إلى المركز فلا بد لرأس المال من الكشف عن وجهه الفاشي، كما لا بد للطبقات الشعبية أن تقاوم. وهو ما يدفع الطبقات الرأسمالية الحاكمة إلى التحرك على جبهتين: الجبهة الداخلية ضد احتجاج الطبقات الشعبية، والجبهة الخارجية لضمان السيطرة على أسواق المحيط، وثرواتها و فوائضها. وحيث تصل هذه النقطة، يصبح هدف التنمية بالحماية الشعبية في كفاحها ضد العولمة موجهاً  من أجل:

  1. إلحاق الهزيمة بالطبقات الحاكمة في المحيط كخطوة على طريق الثورة العالمية.
  2.  تجذير مواقف الطبقات الشعبية في المركز.
  3. والتأسيس لنضال أممي واشتراكي بديل. 

 

التنمية بالحماية الشعبية كحالة دراسة

مقدمة: 

عانى نموذج التنمية بالحماية الشعبية الذي أبدعته الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، عانى من تقصير كل من رأس المال المحلي وقيادة م.ت.ف على حد سواء حيث لم تقوما بمتابعة نهج مقاطعة منتجات الاحتلال وبالتالي الإستثمار على نطاق يغطي الممكن ومن ثم المتطلبات الإجتماعية الناجمة عن قيام الطبقات الشعبية بمقاطعة منتجات الاحتلال. فالخطوة الواسعة الأولى في المقاطعة التي بدأتها الطبقات الشعبية منذ الأيام الأولى للإنتفاضة الأولى أثبتت أن القيادة السياسية والقمة المالية ليستا في وارد المقاطعة وبالتالي التنمية. لا بل إنهما، كما سنبين لاحقاً ولعدة مرات، لعبتا دوراً مركزياً في إنهاء المقاطعة عبر محادثات مدريد-أوسلو ولاحقاً بعد مجيء السلطة إلى الأراضي المحتلة. وهذا أكد التناقض الإجتماعي بين مصالح الطبقات الشعبية ورأس المال وخاصة الكمبرادوري، مما يطرح على مشروع التنمية بالحماية الشعبية تحدي الإعتماد على الذات، ومواجهة خصم داخلي في نفس الوقت له اقتصاده الخاص. وهذا يؤكد أن مشروع التنمية بالحماية الشعبية لا بد أن يعمل بانفصال عن إقتصاد الكمبرادور/وسلطة رأس المال من جهة، وأن يعمل على إخضاعه لاحقاً من جهة ثانية. وهذا يتطلب شرحاً موجزاً للفوارق بين الاقتصادين.

إشترط خضوع المناطق المحتلة 1967 لإحتلال استعماري استيطاني على مشروع التنمية بالحماية الشعبية أن يمر عبر حقبتين في علاقته باقتصاد الاحتلال: 

تمثلت الحقبة الأولى في مبادرة الطبقات الشعبية بمقاطعة أماكن العمل في قطاعات الإقتصاد الصهيوني داخل الخط الأخضر، ومقاطعة منتجات ذلك الإقتصاد، والمبادرة باستثمارات إنتاجية صغيرة خاصة بهم كاللجوء لتربية بعض الماشية والعودة لاستغلال حديقة المنزل وزراعة محاصيل للمتطلبات الأسرية، وإقامة تعاونيات إنتاج المتطلبات المنزلية…الخ كانت هذه المقاطعة بقرار شعبي عفوي، سواء من عملوا داخل الخط الأخضر أو من المواطنين عامة. 

في الحقبة الأولى من الإنتفاضة الأولى تضمنت التنمية بالحماية الشعبية التشغيل الذاتي، وإدارة ذاتية للمشاريع الصغيرة، ومقاطعة المنتج الأجنبي، والاستهلاك الواعي. وهذا بالمناسبة مختلف عن الإنتفاضة الثانية حيث المقاطعة غير مطروحة! هذا ما حصل عملياً.

لكن ما حصل عملياً في الحالة الفلسطينية لم يُستكمل. فالتطور الطبيعي لمشروع التنمية بالحماية الشعبية هو أن يستمر الهجوم الطبقي لمشروع التنمية بالحماية الشعبية إلى أن تضطر السلطة لتأميم المصانع، وأن تحل الإدارة البيروقراطية لتحل محلها الإدارة العمالية  وهذا لم يكن ممكناُ في الحالة الفلسطينية تحت الاحتلال. 

فلا يمكن لمشروع التنمية بالحماية أن يظل محصوراً في المشاريع الشخصية والأسرية، لا بد أن يتوسع على حساب القطاع الخاص ولا سيما المرتبط بالأجنبي والممثل له. كما لا بد أن يغير من طبيعة القطاع العام الخاضع للحكومة بحيث يصبح قطاعاً عاماً حقيقياً. لا بد للحماية الشعبية من التخطيط لإلحاق هذه القطاعات بها، وهذه مسألة في نطاق الصراع الطبقي حيث لن تتم ببساطة، و لكنها تتم من خلال دمج الأكثرية الشعبية في نموذج الحماية مما يرغم الخاص على تكييف نفسه معها وتلبية متطلباتها ثم الخضوع لشروطها سواء من حيث إنتاج الأساسيات او الفكاك مع الأجنبي، أو التحول أكثر للقطاع الإنتاجي. وفي هذا المستوى يمكن لقطاع الحماية الشعبية اعتماد التوعية والتثقيف بمخاطر الأجنبي و بمقاطعة المحلي المتخارج.

قطاع التنمية بالحماية الشعبية هو بمبادرة وقيادة وتمويل وتشغيل العمال والفلاحين أنفسهم. يُدار بشكل جماعي وذاتي في كل مكان عمل و بمجالس عمالية على المستويين القطاعي والوطني. وتكون الإدارة كالعمل المباشر نفسه تتم على يد وبمشاركة كل عامل والتي تصبح سهلة وممكنة نظراً لانتشار التعليم وتوفر أجهزة الكمبيوتر، اي لم يعد العلم حكراً على زمرة من المثقفين.

 

ورغم وجود الإحتلال، كان المفترض أن تُتبع المرحلة أو الخطوة الأولى لمشروع التنمية بالحماية الشعبية خلال الفترة الأولى من الإنتفاضة الأولى بخطوة مكملة من قبل رأس المال المحلي وقيادة منظمة التحرير التي كانت في تونس آنذاك، أي قيام رأس المال المحلي بمبادرة لإنشاء مشاريع على نطاق أوسع من الاستثمارات الصغيرة كبداية لاستقلال اقتصادي وطني  وفك الإرتباط مع اقتصاد الاحتلال. فقيادة م.ت.ف والرأسمالية المحلية كانتا مثابة الدولة التي عليها الاضطلاع بنقل المشروع إلى المرحلة الثانية، لا سيما حينما تهيأت فرصة مناسبة حيث هجر المواطن طوعاً نزوعه لاستهلاك منتجات الإحتلال، بعد أن كان قد أدمن ذلك. وهجر عادة الاستهلاك أمر يحتاج لجهد طويل لو كان بقرار حكومي أو تنظيمي. وعليه، كانت هذه الخطوة من المواطنين مثابة تقديم السوق المحلية إلى رأس المال المحلي على طبق من ذهب. كما كان على قيادة م.ت.ف أن تقوم بتقديم قروض ميسرة للفلاحين والقطاع التصنيعي للمباشرة بإقامة مشاريع زراعية وصناعية لإنتاج الأساسيات. ولو حصل هذا، لما كان اصلاً خارجاً عن نطاق الملكية الخاصة لهؤلاء، لكنه كان سيعمق الفكاك مع إقتصاد الإحتلال ليس أكثر.  و بتقصير رأس المال الخاص داخلياً والقيادة السياسية في الخارج، كان هدم الإنتفاضة قد بدأ مع ولادتها. فلم يكن ممكناً تكامل اقتصاديْ الحماية الشعبية ورأس المال التابع!

 

[7] تشنّ الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة حربين في نفس الوقت. ففي الأولى تعمق الاستغلال الداخلي على الطبقات الشعبية فيها، ولتغطية ذلك تزعم إدارتها الجمهورية الحالية أنها تقلل الضرائب، وهي السياسة التي تخدم الراسمالية الكبيرة التي تكسب المليارات من الاسترداد الضريبي في حين يحصل أصحاب المداخيل الضئيلة على بنسات معدودة.   والحرب الثانية هي الحرب الخارجية التي تأخذ إليها أبناء نفس الطبقات الشعبية ليقتلوا في العراق وأفغانستان وغيرهما.

 

يتبع .. الجزء الثالث

 

الجزء الأول

 

الجزء الرابع

 

الجزء الخامس

كاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *