من هنا و هناك

الإسلام وعلاقته بالعلمانية والديمقراطية

الإسلام وعلاقته بالعلمانية والديمقراطية
الإسلام وعلاقته بالعلمانية والديمقراطية

د. ماهر محمصاني

 

نص محاضرة في ندوة “مركز الحوار العربي” بمنطقة العاصمة الأميركية – الأربعاء 14 آذار/مارس 2018

سوف أبدأ كلامي باستعراض بعض السلبيات بحيث ننطلق منها في عرض موضوع هذه الندوة وتصحيح بعض المفاهيم السائدة والرائجة حول الإِسلام، على الأخص فيما يتعلق بعلاقة الإسلام بالعلمانية والديمقراطية.

لقد سمعنا مراراً وتكراراً من يشبِّهون العلمانية بالإلحاد لأن مبدأ عدم المزج بين الدين والدولة، حتى لا أستعمل تعبير فصل الدين عن الدولة، يتعارض مع اعتبار الإسلام هو دين ودولة، كما أنه يعيق اعتماد الشريعة الإسلامية  أساساً للتشريع.

سمعنا ايضاً أن رب العالمين قد أعطانا شريعة فيها كل ما يحتاج اليه الناس من القوانين والقواعد لمعالجة وتنظيم حياتهم الشخصية والعامة في أدق تفاصيلها. وعليه تكون العلمانية متعارضة مع الدين عندما يَعتَمِدُ النظامُ العلماني على التشريع من قبل البشر فيتعارض بذلك مع الحاكمية الإلهية.

كما سمعنا بأن الديمقراطية هي الأخرى لا تتماشى مع الإسلام، وقد كثر الكلام عن ذلك على الأخص يوم همت أميركا لإجتياح العراق بحجة إزالة الحكم الدكتاتوري التعسفي ومنح الشعب العراقي نعمة الديوقراطية. وقد شاهدت يومذاك بأم العين المنظرين يتبادلون الرأي في التلفزيونات المحلية والفضائية حول الموضوع، ويزايدون على أن المسلمين ليسوا بحاجة للديموقراطية لإنها مؤسسة منشؤها الغرب الملحد وهي لذلك تتنافى مع الإسلام، كما أيضا لأن نظام الدولة الإسلامي هو نظام الشورى.

بناءً على كل هذه المقولات، فقد صُوِّرَ لنا الإسلام بشقه المتعلق بالدولة على أنه يقضي بضرورة وجود رأس لتلك الدولة، وهو الخليفة، يستمد سلطته من الدين، وحيث دستور تلك الدولة و قانونها الوضعي هو القرآن الكريم والشريعة الإسلامية. مهمة الخليفة فيها هي الحفاظ على الدولة وضمان فرض وإعلاءِ كلمةِ الله ونشرها، من خلال الجهاد في سبيل الله. بالتالي إنها دولة تحتجب فيها حقوق البشر الفردية لصالح المصلحة العامة، ألا وهي إعلاءُ كلمةِ الله وضمانُ مصالحِ المجموعة.

كل هذه السلبيات التي بدأنا بعرضها هي بنظرنا ليست من الإسلام.

الإسلام وعلاقته بالعلمانية والديمقراطية
الإسلام وعلاقته بالعلمانية والديمقراطية

أولاً:  الإسلام والعلمانية

–         وطالما أن موضوعنا اليوم يتناول علاقة الإسلام بالعلمانية، أود أن أبدأ بالتشديد على أن العلمانية لاعلاقة لها، لامن قريب ولا من بعيد، بالإلحاد. فالإلحاد يرفض الإعتراف بالله كما يرفض الدين جملة وتفصيلاً، ونعني بذلك أي دين وليس فقط الإسلام. بالمقابل، فإن العلمانية تقوم على احترام معتقد كل فرد من أفراد المجموعة المدنية. وإذا كانت الدولة العلمانية غير معنية بنشر الدين الإسلامي، إلا أنها غيرُ معنيةٍ ايضا بنشر أي دين آخر أو التحيّز لأي دين على آخر.

 –         لنبدأ بتعريف مفهومنا للعلمانية حيث أنها مفردة ذات مفاهيم عديدة تختلف باختلاف منطلق من ينادي بها. لذلك ومنعا لأي التباس خلال حديثنا اليوم ارتأيت أن أبدأ بعرض مفهومي للعلمانية، على النحو التالي:

 

أولاً: ليس  للدولة الحق كما لا يقع عليها إي واجب في أن تتدخل وتؤثّر في المعتقدات الدينية لمواطنيها.

ثانيا: إن حقوق  وواجبات الأفراد تجاه الدولة وفيما بينهم، كمواطنين في تلك الدولة، تُستَمدُ حصراً من القوانين الوضعية التي تشرعها تلك الدولة دون أي تمييز في التطبيق بين الأفراد يكون مبنياً على الإنتماء الديني أو الطائفي.

ثالثاً: إن الدولة تسهر على تطبيق القوانين من خلال المحاكم والقضاء على جميع المواطنين بالسواء دون أي تمييز مبني على المعتقد الديني.

رابعاً: إن الدولة تستمد شرعيتَها من مواطنيها ولا تُسأَلُ عن أعمالها إلا أَمامَهم وليس أمام أية سلطة دينية.

خامساً: مواطنو الدولة العلمانية ليسوا بِرَعايا يستجدون رحمة حاكمٍ يستمد سلطته من سلطة دينية أو إلهية؛ على العكس، هم مواطنون وشركاء في الدولة ولهم نفس الحقوق والواحبات.

سادساً: ليس للمؤسسات الدينية الحق بممارسة اي سلطة من سلطات الدولة أو التدخل في شؤون إدارتها؛ كما ليس للدولة أية سلطة للتدخل في شؤون السلطات الدينية سوى لضمان التزامها بالقوانين المرعية وضمان حرية الرأي والمعتقد والممارسة الدينية لجميع الأفراد والمؤسسات الدينية دون استثناء، كما لضمان احترامهم جميعهم حقوق الغير المماثلة.

هنا نسارع إلى القول بأن القرآن الكريم لم يلحظ مكاناً لمرجعية دينية منظمة ذات سلطات مشابهة للكنيسة في الديانة المسيحية؛ كما أن الإسلام لا يلحظ أو يسمح بوجود دور الوسيط بين الله والبشر، إذ أن علاقة الإنسان مع ربه علاقة مباشرة.

إنطلاقاً من هنا، وبما أن الإسلام لا يعترف بمرجعية دينية، وطالما أن العلمانية ليست من قبيل الإلحاد، فإن موضوع علاقة الإسلام بالعلمانية يصبح قابلاً للبحث إذا قلنا أن الإسلام ليس دين ودولة. وبالفعل، فإنه لا وجود للدولة وشكلها ورئيسها في القرآن الكريم؛ إنما نظرية الإسلام بمثابة دين ودولة اتت إلى الوجود من خلال الفقه والتأويلات الفقهية لسيرة الرسول وصحابته من أقوال وأفعال.

من جهة ثانية، وبما أنه لا وجود للدولة في القرآن الكريم، كذلك أيضا لا نجد في القرآن الكريم أثراً للشريعة الإسلامية بمفهوم الإسلام السياسي، أي عبارة عن دستور وقوانين مدنية وتجارية وجزائية ودولية متكاملة مما قد يحتاج إليه إقامة وتسيير أمور الدولة.

من جهة ثالثة، ليس الجهاد ما يسمى بالحرب المقدّسة للحفاظ على الدولة الإسلامية وإعلاء كلمة الله.

فإذا لم يكن الإسلام دين ودولة، إلا أنه أوسع من ذلك بكثير كونه دين ودنيا. هو دين من حيث أنه يرعى علاقة الإنسان بخالقه من صلاة وصوم وحج وما إلى ذلك من العبادات. وهو أيضا دنيا من حيث أنه أتى بشريعة هي عبارة عن مبادئ عامة ومفاهيم وأخلاق ترعى كافة نواحي حياة الإنسان في علاقات الناس فيما بينهم  وبمجتمعاتهم. فمن الطبيعي إذن أن نجد في الشريعة الإلهية مبادئ سامية تصلح لتكون أساساً لتشريع الدساتير والقوانين الوضعية من قبل البشر بغرض إقامة دولة ناجحة بما يتلائم وظروف المجتمعات في الزمن والمكان المناسب. وهنا نسارع إلى القول أن المفهوم الصحيح للشريعة هو غير الشريعة التي وضعها الفقهاء عبر السنين بشكل قوانين مدنية وجنائية ودولية بمواد مفصلة والتي ينادي الإسلاميون بتطبيقها فيما يسمى بالدولة الإسلامية. كلاّ، إن الشريعة الحقيقيةهي كلام الله الوارد في القرآن الكريم المتضمن المبادئ العامة والسامية لمكارم الأخلاق وحسن التعامل فيما بين البشر مما يمكن أن يبنى عليه التشريع الوضعي.

لذلك فإن الشريعة الإلهية قد أتتنا بالتالي مما يفيد في بناء الأوطان:

  • أولا، كون المجتمع الإسلامي مجتمعاً تعدديّاً؛
  • ثانياً، كون المجتمع الإسلامي التعددي مبنيّاً على احترام حقوق الإنسان وعلى رأسها حرية المعتقد حتى لا يكون الدين عائقاً في علاقات الناس بعضهم بالبعض، بل على العكس كي يكون الدين عامل تلاقي وتبادل على أساس مبادئ الشريعة الغرّاء؛
  • ثالثاّ، كون السلام هو المبدأ الذي يرعى المجتمعات التعددية وعلاقة المجتمعات فيما بينها.

ولنا كلمة حول كل واحد من هذه المبادئ:

 ألمبدأ الأول:

إن المجتمع الإسلامي هو مجتمع تعددي. هذا ما أكده لنا رب العالمين في القرآن الكريم إذ قال: “ولو شاء ربُّكَ لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين” (سورة هود  11:118).

ولم تكن تلك التعددية من قبيل الصدفة، بل جعلها الله كذلك لأغراض معينة إذ قال: “ومن آياته خلقُ السماوات والأرضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” (سورة الروم  30:22).

ويلاحظ ايضاً أن هذه التعددية ليست محصورة بالمؤمنين من مسيحيين ويهود ومسلمين، بل تتضمن أيضاً غير المؤمنين كما جا في كتاب الله: “هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ والله بما تعملون بصير” (سورة التغابن  64:2).

والأكثر من ذلك نبّهنا رب العالمين بأنه لا يكفي لهذه الأقوام المختلفة أن تكتفي بمجرد التعايش مع بعضها البعض. بل على الناس أن يقبلوا ببعضهم البعض وأن يتفاعلوا مع بعضهم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباّ وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاقم إن الله عليم خبير”  (سورة الحجرات  49:13).

 

ألخلاصة الأولى: إن في ذلك أولى خصائص علاقة الإسلام بالعلمانية حيث أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع تعددي عن سابق تصور وتصميم من قبل رب العالمين بينما كان باستطاعته أن يجعله كله مجتمعاَ موحّداً على الإسلام. وأهم دليل على ذلك هي تلك التعددية التي تكونت منها الأمة التي ساعد رسول الله في تنظيمها في المدينة المنورة عندما هاجر اليها.

المبدأ الثاني:

ثم أن هذا المجتمع التعددي مبني على الإعتراف بحقوق الإنسان وتطبيقها، وأهمها حرية المعتقد. و قد ورد مبدأ حرية المعتقد في القرآن الكريم على النحو التالي:

“وقلِ الحقُّ من رَبِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف 18:29)

كما ورد أيضا في القرآن الكريم ما يلي: “لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغيِّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصامَ لها والله سميع عليم” (سورة البقرة 2:256).

ولا يعني ذلك أن المؤمن والكافر يتساويان إذ أن كل إنسان يأخذ نصيبه من الثواب والعقاب يوم الحساب في الآخرة. إنما في هذه الحياة الدنيا فإن الجميع متساوون في حرية المعتقد ولا يجوز لأحدٍ أن يرغم آخر على الإيمان. وينطبق ذلك حتى على رسول الله إذ حصر الله مهمةَ رسوله على النحو التالي: “ما على رسول الله إلاّ البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون”. (سورة المائدة 5:99)

وحرصاً منه على حرية المعتقد، فإن رب العالمين لم يترك لرسوله حرية اختيار أسلوب البلاغ، بل حدده له ولمن قد يتّبع خطى الرسول في نشر الرسالة على النحو التالي:

“ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين”. (سورة النحل 16:125)

وحتى لا يترك أي موضع للشك بالنسبة لنشر الرسالة، أكد رب العالمين في كتابه العزيز مخاطباً رسوله على عدم جواز استعمال القوة لإرغام أحد على قبول الرسالة واعتناق الإسلام، على النحو التالي: “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس 10:99). والسبب في ذلك أن الإنسان حرٌ ومُخَيَّرٌ في هذه الحياة الدنيا وله حتى آخر يوم من حياته حتى يؤمنَ أو يموتَ على كُفرِهِ. ولذلك احتفظ رب العالمين لنفسه دون غيره بحق الحكم على البشر في الآخرة، وقد ذكر رسوله بذلك على النحو التالي: “فذكر إنما أنت مُذًّكِّر* لست عليهم بمسيطر* إن علينا إيابُهُم* ثم إن علينا حسابُهُم” (سورة الغاشية (88:21-22/25-26.

يتبيّن مما تقدّم أن رب العالمين نَبَّهَ رسوله بصريح العبارة أن مهمته محصورة بإبلاغ الرسالة ونشرها وهو لذلك لم يخوّله سلطة فرض الإيمان كما لم يخوله حتى الحكم على نوعية إيمان ومعتقد أي مخلوق، حيث أن سلطة الحكم على إيمان البشر تنحصر برب العالمين دون سواه. عليه إن امتنع على الرسول فرض الدين والإيمان على البشر فبالأحرى أن يمتنع ذلك على الدولة والسلطات الدينية وغيرِهِم إذ أن ذلك يكون من قبيل الشرك بالله.

إذن الخلاصة الثانية في علاقة الإسلام بالعلمانيةطالما أن الإسلام يقر للبشر بِحُرِّيَّةِ المعتقد بلا أية حدود، فإنه لا يسوغ لأية سلطة من أي نوع كانت أن تتدخل في معتقدهم وتفرض عليهم أية معتقدات ولا أن تميّز بينهم في الحقوق بحسب معتقداتهم الدينية، وهذا هو جوهر العلمانية.

 

المبدأ الثالث:

إن السلام هو أساس علاقة البشر فيما بينهم داخل المجتمع الإسلامي وفيما بين المجتمعات المختلفة، أكانت إسلامية أو غير إسلامية. فالإسلام قد حرّم القتال بصورة مطلقة إلاّ في حال الدفاع عن النفس، كما يلي: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”. (سورة البقرة  2:190)

ومع أن رب العالمين قد شرّع القتال لغرض الدفاع عن النفس، إلا أنه بنفس الوقت نصح عباده بالروية إن اعتدى عليهم أحد، كما نصح بالترفّع والصبر على الأذية حقناً للدماء بأمل ترسيخ السلام على النحو التالي: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين”. (سورة النحل  16:126)

إذنّ إن تشريع القتال للدفاع عن النفس كما تقدم ليس بلا حدود بل يبقى محصوراً ضمن حدود رد الإعتداء، كما جاء في الآية الكريمة: “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”. (سورة البقرة  2:194)

ذلك لأن الغاية العليا هي درء الإعتداء وإعادة السلام وليس الإقتصاص من المعتدي: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”. (سورة الأنفال  8:61) إذن في ذلك حض على الحفاظ على السلام وإعادة السلام إذا ما اختل.

مما تقدم وطالما أن اللجوؤ إلى العنف ينحصر بالدفاع عن النفس، فإنه لا يجوز استخدامه لأغراض توسعية كما لا يجوز ذلك لأغراض نشر الدين.

وهنا نسارع للتوضيح بأن القتال هو خلاف الجهاد وذلك بصورة مطلقة. صحيح أن الجهاد هو من مقوِّمات الإسلام، إنما الجهاد الذي نادى به الإسلام هو مخالف كلّيّاً لما صور إلينا بأنه حرب مقدّسة للدفاع عن الدين وإعلاء كلمة الله والدفاع عن الدولة الإسلامية.

بادئ ذي بدء لا توجد علاقة بين القتال والجهاد. ولذلك فإن القرآن الكريم استخدم التعبيرين، كلّاً في موضعه الملائم كي لا يكون هناك التباس بينهما. فبينما القتال يرمي إلى الدفاع عن النفس، فإن الجهاد هو عكس ذلك تماماً إذ هو من أدوات تهذيب النفس وإرساء السلام. إنه وسيلة يستخدمها الإنسان لإظهار وتطوير وتهذيب إنسانيته.

وبالفعل، إن الجهاد وسيلةٌ لتهذيب النفس من خلال سلوك السبيل الذي اختطه رب العالمين للبشرمن خلال السعي وراء العلم والعمل والجد والصلاة والتفكير كما من خلال الإحسان وعمل الخير. لذلك أسماه رب العالمين الجهاد في سبيل الله؛ أي جهاد النفس للتقرّب من الله من خلال سلوك سبيله الذي اختطه لنا. ولا يتخذ الجهاد شكل العنف إلا في حالة واحدة لا ثانٍ لها، ألا وهي لرد كل معتد يرمي إلى ردعنا عن سبيل الله وذلك فقط حتى نستعيد حريتنا في سلوك سبيل الله والتقدم فيه. لهذا السبب خاطب رب العالمين رسوله وصحابته فحثهم على الجهاد لقتال أهلِ مكة وغيرِهِم ممن قصدوا قتال النبي محمد لردعه عن نشر الرسالة وحثه وصحابته على الإرتداد عن الإسلام.

ولا بد هنا من استخلاص فكرة هامة من حيث تبديد ما يوهم إلينا من كون الجهاد هو الوسيلة أمام المسلمين والدولة لتكريس حاكمية الله إذ يرمي إلى الدفاع عن الدين وإعلاء كلمة الله. وكم في في مثل هذا الإدعاء من اعتداء على جلال الله وعلى كونه على كل شيء قدير، وكأنما رب العلمين بحاجة للبشر لإعلاء كلمته. وقد أكد لنا رب العالمين في القرآن الكريم عدم حاجته للبشر لهذا الغرض على النحو التالي، فقال: “إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون” (سورة الحِجر 15:9). ومنعاً لأي التباس قال أيضاً: “ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه وإن الله لغنيٌّ عن العالمين” (سورة العنكبوت 29:6).

الخلاصة الثالثة في علاقة الإسلام بالعلمانيةإن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية بحجة التزام واجب الجهاد في سبيل الله لأن الجهاد هو مسألة شخصية كالصلاة والصوم التي لا تتدخل الدولة العلمانية فيها سوى للدفاع عن حق كل فرد في ممارسة شعائره الدينية أيا كانت معتقداته وانتماءاته الدينية.

ثانياًالإسلام و الديمقراطية

نأتي الآن إلى علاقة الإسلام بالديمقراطية. فطالما أن الإسلام لا يتضمّن دولة أو نظاما سياسياً محدداً لإقامة الدولة، فلا يكون إذن في الإسلام شكل معيّن للدولة قد يتنافى مع الديمقراطية. يبقى علينا أن نبحث فيما إذا كانت هناك أية مبادئ في الإسلام، أو الشق منه المتعلّق بالشريعة قد يتنافى والديمقراطية. وقد سبق وأشرنا بأن البعض قد حَذَّرَنا من الديمقراطية على أساس أنها من صنع الغرب، وأن المسلمين ليسوا بحاجة إلى الديمقراطية لآن الإسلام قد أتاهم بنظام الشورى.

لنبدأ من حيث بدأنا بالشق المتعلّق بالعلمانية وذلك بتعريف الديمقراطية التي نعتبرها غير منافية للإسلام. إن الديموقراطية هي نظام حكم مبني على مشاركة الشعب في حيثيات الحكم إما مباشرة أو من خلال ممثليهم في البرلمان يتم اختيارهم بالإنتخاب المباشر. كما يشارك الشعب في ظل نظام ديمقراطي في مختلف مجريات الحياة المدنية وذلك ضمن إطار من المساواة في الحقوق واحترام حقوق الإنسان واعتماد قوانين يخضع إليها الجميع بصورة متساوية. إذن إن النظام الديمقراطي قاعدته الأساسية هي المساواة المطلقة بين المواطنين دون أي تمييز مبني على اختلاف العرق أو لون البشرة أو الجنس أو المعتقد.

بناءً على هذا التعريف نسارع إلى القول أن نظام الشورى الذي يعتبره البعض بمثابة المثال الأعلى لنظام الحكم الإسلامي لم يأت ذكره في القرآن الكريم بمثابة نظام حكم. بمعنى آخر، إن نظام الشورى لم يكن الغرض منه أن يشكِّلَ نظام حكم بل كان دوره مختلفا جداً عن الشؤون السياسية.

توجد في القرآن الكريم آيتان حيث وردت عبارة “شورى” وهما:

الآية 159 من سورة آل عمران (3:159): “فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظّاً غليظَ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكِّلين”.

ثم الآية 38 من سورة الشورى (42:38): “والذين استجابوا لربِّهِم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون”.

ففي الآية الأولى (أي الآية 159 من سورة آل عمران)، الكلام موجه لرسول الله حول كيفية وجوب معاملة صحابته ممن يعتمد عليهم في نشر الرسالة ورد الهجمات المعادية التي ترمي إلى إثنائه عن مهمته. فكانت النصيحة الإلهية الموجهة إليه تقضي بأن يكون لطيفاً مع صحابته وأن يشركهم بالرأي حتى يشعروا بأهمية دورهم في مساعدته. ولكن بما أنه هو الرسول المكلف نشر الرسالة، لا بد له بعد سماع الرأي من أن يتوكل على الله بالرأي الذي يستنسبه ويتصرّف على أساسه. إذن محور الحديث في هذه الآية لا علاقة له ببناء الدولة وإدارة شؤونها بل ينحصر الحديث بظروف قيام محمد عليه السلام بمهام الرسالة الموكلة إليه.

أما الآية الثانية فإنها تعنى بوصف محيط المجتمع المدني الإسلامي وعلاقة الأفراد فيما بينهم من حيث اعتماد الشورى حفظاً على السلم المدني، ومن هذا المنطلق فإن اعتماد وممارسة النظام الديمقراطي يندرج ضمن نتائج ممارسة الشورى فيما بين المسلمين وغيرالمسلمين من المواطنين.

 

المبدأ الأول:  المساواة بين البشر

بالنسبة للديمقراطية كعماد لنظام الحكم، نرى أن مبدأ المساواة بين المواطنين هو ما يشكل القاعدة الأساسية. ومن هذه الناحية، فإن العلاقةَ وطيدةٌ بين الإسلام والديمقراطية، حيث أن الإسلام مَبنِيٌّ على المساواة المطلقة بين المسلمين فيما بينهم، ثم بين المسلمين وغير المسلمين داخل المجتمع الواحد.

وهذه المساواة بين البشر كمُكَوِّنٍ من مكوّنات البشر قد كرَّسَها الإسلام عندما ذكَّرَنا بأن المساواة هي في أساس خلق الإنسان منذ البداية؛ فقد جعل الله كافة البشر دون استثناء، ذكوراً وإناثاً، متساوين عندما خَلَقَ الجنس البشري من طين ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة على الأرض؛ وهو لم يستثنِ أحداً بالمطلق من ذلك، إذ قال: “ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين (سورة المؤمنون (23:12). كما قال أيضاً: “هو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ فَمُستَقَرٌّ ومستودعٌ  قد فصّلنا الآياتِ لقومٍ يفقهون” (سورة الأنعام 6:98).

والله لم يستثن أحداً من أسلوب الخلق هذا وما يترتب عليه من مساواة بين البشر بمن فيهم الرسل والأنبياء، إذ قال لنبيه محمد: “قل إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إليَّ إنما إلهُكم إلهٌ واحدٌ (سورة الكهف 18:110). وكما أن البشر خلقوا متساوين فإنهم يبقون كذلك حتى يأتيهم الموت، إذ قال: “ما خلقكم وما بعثكم إلا كنفسٍ واحدة إن الله سميع بصير” (سورة لقمان 31:28).

نأتي هنا إلى الخلاصة الأولى ألا وهي أن كون الإسلام مبنياً على المساواة بين البشر فتكون أولى قواعد الديمقراطية مترسخة في الإسلام.

المبدأ الثاني:  واجب وحرية البشر في تنظيم شؤون حياتهم

كما قلنا سابقاً، تقوم الديمقراطية على حرية الناس في خيار تنظيم شؤون حياتهم وبالتالي اعتماد نظام الحكم الذي يلائمهم؛ ولهم لذلك سن القوانين التي ترعى مجتمعاتهم. وهنا أيضا، نرى أن سن القوانين من قبل البشر هو من صميم الإسلام ولا يتناقض القط مع حاكمية الله كما يدعي القائلون بأن الإسلام دين ودولة وبالتالي لا يسوغ للبشرسن القوانين.

والحقيقة أننا إذا عدنا لأسلوب الخلق الإلهي لتبين لنا أن الله قد تعمّد تسمية الإنسان خليفة له على الأرض وأطلق له حرية التصرّف في ضوء المبادئ العامة للشريعة ومن ثم احتفظ الله لنفسه محاسبة الإنسان في ممارسة تلك الحريّة. إذن فإن حاكمية الله تتجلّى من خلال منح الإنسان حرية حكم نفسه، فيكون بالتالي الحكم من قبل الإنسان مستمداً بشكل كامل من حاكمية الله وتنفيذاً لها. ولا نود أن ندخل هنا في مقولة ما لله لله وما لقيصر لقيصر؛ إنما نُقِرُّ بأن كل شيء هو لله، وهو الذي من خلال حاكميته المطلقة وضع إطار حرية الإنسان المطلقة في إدارة شؤونه وممارسة الحكم وسن القوانين التي تناسبه، وفي النهاية يبقى لله وحده دون سواه الحكم على البشر حول كيفية ممارسة تلك الحرية.

نأتي إذن إلى الخلاصة الثانية بان ليس هناك أي تعارض بين الديمقراطية وحاكمية الله

فقد ورد في القرآن الكريم: “ثم جعلناكم خلائفَ في الأرض من بعدِهِم لننظرَ كيف تعملون” (سورة يونس 10:14).

ألمبدأ الثالث:  إن حرية المعتقد والمساواة بين الجميع في المجتمع الإسلامي صنوان لا

ينفصلان حيث يتساوى فيه المسلم مع غير المسلم

هنا أود التطرق إلى نظام أهل الذمة الذي اتُبِعَ خلال العصور المتعاقبة من حياة الدولة الإسلامية. فنظام أهل الذمة الذي يجعل من المسلم مواطناً من الدرجة الأولى وغير المسلم مواطناً من الدرجة الثانية لم يتخذ شكله المؤسساتي إلا بعد وفاة رسول الله وبدء الفتوحات العربية. وغنيّ عن القول أن هذا النظام وإن كان في حينه نظاماً رحيماً حمى حريّة معتقد غير المسلمين وعنى بحماية نفوسهم وأموالهم، إلاّ أنه لايجب أن يحمل مسمىً إسلاميّاً. وبالفعل لم يرد ذكر هذا النظام في أي من آيات القرآن الكريم.

في هذا المعرض يعتمد القائلون بإسلامية نظام  أهل الذمة على الآية 29 من سورة التوبة التي تنص على ما يلي: “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون” (سورة التوبة 9:29).

والحقيقة أن مبدأ فرض الجزية الوارد في تلك الآية لم يأت به الإسلام من العدم، بل كان يعمل به في الجاهلية حيث أن المنتصر في الحرب يفرض الجزية على المهزوم دون أن يشكل ذلك نظاماً أبديّاً يبقى فيه المهزوم في وضع إجتماعي أدنى إلى الأبد. والأمر الثاني هو أنه خلافاً لما قال به الفقه، فإن سورة التوبة (والمسماة أيضاً سورة براءة) لم تأتِ لنسخ كل مبادئ حقوق الإنسان التي نزلت في الفترة السابقة من الوحي كما ادعى الفقهاء، وبالتالي فإن هذه السورة لم تلغِ مبدأ المساواة بين البشر وحرية المعتقد ومبدأ عدم جواز قتال غير المعتدين.

للدلالة على ذلك، فإن رب العالمين قد سبق وحذّرنا من الإعتداء على أحد إذ قال: “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين؛ لذلك فإن القول بنسخ ما سبق من مبادئ الرحمة يعني بتعبير آخر أن الله قد غير رأيه من مسألة المبادرة بالإعتداء على الغير وأصبح بذلك محبّاً للمعتدين. بناءً عليه، فإننا نرى أن الآية 29 من سورة التوبة التي يُعْتَمَدُ عليها في إقرار نظام أهل الذمة إنما موجهة حصراً ضد الذين بادروا بالإعتداء على الرسول ولاحقوه لقتاله.

ونأتي هنا إلى الخلاصة الثالثة والأخيرة بأن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام بسبب نظام أهل الذمة لأنه ليس نظاماً مبني على مبادئ الإسلام، لا بل إن المبادئ التي تبنى عليها الديمقراطية هي من صلب الإسلام.

الخلاصة

مما تقدّم نخلص إلى أن للإسلام علاقة وطيدة جدّاً بالعلمانية والديمقراطية بحيث أن الهوية الوطنية شيء والإنتماء الديني شيئٌ آخر. ولا يجوز الخلط بينهما. فبينما الهوية الوطنية تجمع أبناء الوطن الواحد مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية وغيرها، فإن الهوية الدينية إن حلت محل الهوية الوطنية أصبحت عامل تفرقة وركود وتهميش.

وأبلغ مثال على ذلك أقدمه لكم في نهاية حديثي هذا هو مثال تركيبة لبنان السياسية الطائفية. فإن كون النظام السياسي اللبناني نظاماً طائفيّاً، فإنه نظام لا هو علماني ولا هو ديمقراطي. بالتالي فإن الهوية الوطنية تنحسرأمام الهوية الطائفية. وبالفعل، فإن اللبنانيين ليسوا مواطنين بالمعنى الكامل والصحيح للكلمة، بل هم رعايا لا يرتبطون بالوطن إلا من خلال الطائفة الدينية التي ينتمون إليها. ولذلك إن قسماً لا يستهان به من حقوق اللبنانيين المدنية مستمد من حقوق طوائفهم بحيث إذا زال الإنتماء الطائفي زالت أكثر الحقوق المدنية.

إليكم مثال على ما أقول. أنا كلبناني ينتمي إلى الطائفة الإسلامية السنية، لي فقط الحقوق المتعلقة برعايا الطائفة السنية في لبنان، وهي تختلف عن حقوق المسيحي الماروني والمسيحي الأرثوذكسي والمسلم الشيعي أو الدرزي إلى آخره. وعلى افتراض غيرت انتمائي الديني وأصبحت بوذيا، عندئذٍ أفقد معظم حقوقي المدنية لأن الطائفة البوذية ليست من الطوائف الثماني عشر التي يقرّها القانون. ففي تلك الحالة اخسر حق الترشح للنيابة وسائر المراكز السياسية، كما أخسر حق التوظف في أي من وظائف الدولة اللبنانية؛ وإذا ما مات والدي فإني لا أرثه وإن أنا مت فلا يرثني أولادي، وغير ذلك من حقوق المواطنة التي سوف أفقدها.

بنتيجة المطاف، بما أن الإنتماء إلى الوطن في لبنان يتبع الإنتماء الطائفي، فإنه يصعب جمع كل اللبنانيين حول مصالح الوطن لأنهم غالباً ما ينظرون إلى مصالح الوطن من خلال منظار مصالح طوائفهم الضيقة وهذا ما يدفع بهم أن يستعينوا بالغريب على أبناء وطنهم من الطوائف الأخرى. وهنا تكمن التداعيات الكبرى لنبذ العلمانية والديمقراطية إذ يصبح الوطن مهدداً بدونها.  وشكراً…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *