أقلام مهجرية

20 آيار عصي على النسيان

عبد الناصر عوني فروانة
عبد الناصر عوني فروانة

عبد الناصر عوني فروانة

 

 

أيها الفلسطينيون أحفظوا هذا التاريخ في ذاكرتكم، واحفروه في سجلات تاريخ ثورتكم ومسيرة مقاومتكم. فهو مفخرة لكم ولكل من عشق المقاومة. فيوم الاثنين الموافق 20 آيار/مايو من عام 1985، لم يكن يوما عاديا، وانما كان يوما استثنائيا في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة والحركة الوطنية الأسيرة. لذا سيبقى تاريخاً محفوراً عميقاً في الذاكرة الفلسطينية وعصي على النسيان.

وإذا كان التاريخ الفلسطيني يحفظ ذاك التاريخ بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير. ليس لأن أبي تحرر في مثل هذا اليوم وقد تمكنت من احتضانه وللمرة الأولى في حياتي دون قيود ومراقبة السجان والجنود، في لقاء مفتوح دون تحديد للوقت والزمن، بعد اعتقال وفراق امتد لما يزيد عن خمسة عشر عاما فقط. أو لأن مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء قد أفرج عنهم في ذاك اليوم فحسب، وانما لأنه شهد انتصاراً باهراً للإرادة والعزيمة الفلسطينية على عنجهية السجان وصلفه، وكُسرت خلال ساعاته القيود وتحرر فيه ما يزيد عن الألف أسير في إطار صفقة تبادل هي الأروع من بين صفقات تبادل الأسرى في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. انها عملية “الجليل” التي تمت ما بين الجبهة الشعبية -القيادة العامة وحكومة الاحتلال.

ان تاريخ الصراع العربي-الاسرائيلي حافل بصفقات تبادل الاسرى، والتي وصلت بمجملها الى (٣٩) صفقة تبادل. حيث بدأتها عربيا جمهورية مصر العربية في شباط/فبراير عام 1949، وفلسطينياً بدأتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تموز/يوليو عام 1968. وأكثر الصفقات وأكبرها أنجزتها حركة “فتح” وآخرها حركة حماس في تشرين أول/أكتوبر2011 والتي تُعرف بصفقة “شاليط” أو كما يُطلق عليها الفلسطينيون بصفقة “وفاء الأحرار”، وهي تعتبر الأولى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لكن “عملية الجليل” التي نحتفي بذكراها اليوم كانت هي الأبرز والأكثر روعة من بين مجموع صفقات التبادل،. تلك العملية التي اكتسبت بُعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً، فشملت ألف ومائة وخمسين أسيراً من بينهم أسرى أجانب وعرب وفلسطينيي 48 والقدس، بالإضافة إلى أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يُستَثنَ أحدٌ، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وخُيِّر هؤلاء المحررون في تحديد الجهة التي يرغبون التوجه لها بعد تحررهم. وبالمقابل أطلق الفلسطينيون في منظمة الجبهة الشعبية-القيادة العامة سراح ثلاثة جنود إسرائيليين هم: (الرقيب أول حازييشاي)، أسر خلال معركة السلطان يعقوب، بتاريخ 11حزيران1982، خلال قيادته واحدة من رتل الدبابات الإسرائيلية. أما الجنديان الآخران فهما (يوسف عزون) و(نسيم شاليم)، كانا قد أسرا في “بحمدون” بلبنان بتاريخ 4 أيلول1982، مع ستة جنود آخرين، كانوا بحوزة حركة فتح، وأطلق سراحهم ضمن عملية تبادل سابقة عام 1983.

“عملية الجليل” كانت صفقة تبادل مميزة بكل حيثياتها، وشكلت حدثاً نوعياً وانتصاراً تاريخيا في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وسابقة ثورية في كافة نتائجها. كما وشكّلت صفعة قوية للاحتلال بكل مكوناته، وأذلت أركانه، واعتبرت الأكثر وجعاً لأجهزته الأمنية وقيادته السياسية وفقاً لتصريحاتهم عقب العملية. كما وأن من تحرروا في تلك الصفقة انخرطوا في العمل النضالي وكانوا شعلة انتفاضة الحجارة عام 1987، وهم من قادوا فعالياتها وانشطتها ومسيرتها.

لهذا وبغض النظر عن تباين المواقف من الجبهة الشعبية-القيادة العامة التي أنجزت تلك العملية، أو حتى عن طبيعة العلاقة بالمحررين أنفسهم وانتماءاتهم الحزبية، فان الواجب الوطني يحتم علينا الإشادة بتلك العملية وبما حققته من انتصار باهر. بالضبط كما اشدنا لاحقا وما زلنا نشيد جميعا بصفقة “شاليط” بغض النظر عن طبيعة مواقفنا ومستوى علاقاتنا بحركة “حماس”. إذ أن حرية الأسرى تتطلب التعاون مع كل من يمكن أن يساهم في انتزاعها، وتستدعي الاشادة بكل من ينجح في تحقيقها، بغض النظر عن موقفنا منه وطبيعة علاقتنا به وما يمكن أن يُسجل من تحفظات على سلوكه.

وتحل علينا الذكرى الخامسة والثلاثون لـ “عملية الجليل”، وهناك الآلاف من الفلسطينيين يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأن أكثر من خمسمائة أسير منهم يقضون أحكاما بالسجن المؤبد لمرة أو لمرات عديدة. وأن العشرات من بين أولئك قد مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاما، بل ثلاثين عاما وما يزيد. وأن حرية الكثيرين منهم لن تتحقق إلا في إطار “صفقات التبادل” وهذه الحقيقة المرة التي يجب أن ندركها جميعا ونعمل على اساسها.

وفي ظل انسداد الأفق السياسي فان الكل يعلق آمالاً على ما لدى حركة “حماس” في غزة من أوراق يمكنّها من اتمام صفقة تبادل جديدة تنهي معاناة بعضهم وتطلق سراح المئات منهم.

إن الشعب الفلسطيني متمسك بحرية الأسرى، شرطاً أساسياً لاستمرار العملية السلمية، حيث لا يمكن لأي اتفاق أو تسوية أن تحقق السلام العادل دون إنهاء الاحتلال وإطلاق سراح الأسرى جميعا. ومن حق وواجب الشعب الفلسطيني وقواه الحية والفاعلة اللجوء الى استخدام كافة أشكال الكفاح من أجل ضمان حرية الأسرى ودحر الاحتلال والعيش بحرية وكرامة.

فكل الاحترام والتقدير لكل من جعل من العشرين من آيار 1985 تاريخا تتوارثه الأجيال وتردده الألسن، وعلامة بارزة في مسيرة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة. والتحية لكل الأسرى الذين تحرروا في اطار تلك الصفقة الرائعة التي تمت في ذاك اليوم الاستثنائي الذي سيبقى محفورا في ذاكرة شعب ما زال حي ويقاوم.

عبد الناصر عوني فروانة

أسير محرر، و مختص في شؤون الأسرى رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين وعضو اللجنة المكلفة بإدارة شؤون الهيئة في قطاع غزة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *