تحاليل و تقارير ساخنه

حلول كيسنجر للمستنقع الأمريكي في سورية

الكاتب: كمال علام
– ترجمة: لينا جبور

 

يوجِّه كيسنجر بالتحدث مع دمشق، وهذا ما فعله صانعو سياسات الأمن القومي الأمريكيين في السنوات الأربعين الماضية ممن لديهم خبرة فعلية في التحدث إلى سورية.

في خضمّ الضجة الدولية بشأن تسييس العقوبات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية في سورية، يوجد هناك شيء واحد مفقود، وهو استراتيجية أمريكية شاملة بخصوص سورية. في الوقت الذي يسارع فيه المحللون إلى التفكير في العمل داخل دمشق، يبرز السؤال المناسب أكثر، وهو: ما سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية في ما يتجاوز العقوبات؟ هل يوجد هناك عدسة مناسبة أكثر غير النظر إلى سورية من منظور إيران؟

تكثر التصريحات المتناقضة وتتأرجح الولايات المتحدة بين المطالبة أولاً بإزاحة الرئيس بشار الأسد، وإعلانها لاحقاً أنها لم تعد تسعى إلى ذلك. ومع ذلك، أعلنت واشنطن في حزيران/يونيو فرض قانون قيصر الجديد “لحماية المدنيين السوريين” كوسيلة للحث على الانتقال السياسي. يستهدف قانون قيصر بشدة ويعاقب كبار المسؤولين ورجال الأعمال السوريين، ولكنه يطول أيضاً أطرافاً ثالثة تريد التعامل مع سورية. إنه يهدف إلى ردع الصين والإمارات ودول الخليج الأخرى من أن تصبح المنقذ الاقتصادي لسورية. يُعد قانون قيصر أشمل برنامج عقوبات في التاريخ، وسيكون له تأثير اقتصادي كبير على سورية وجيرانها، وبخاصة لبنان. إذ يهدف بشكل أساس إلى محاسبة الجيش السوري والحكومة.

ومع ذلك، لا يقتنع جميع حلفاء أمريكا في أوروبا والشرق الأوسط بقانون قيصر. إذ ترى دول مثل مصر والإمارات واليونان المزيد من الحكمة في دعم سورية كوسيلة لأخذ الحيطة ضد العدوان التركي في البحر الأبيض المتوسط. تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في سياستها تجاه سورية وأن تضع في الحسبان الأولويات المختلفة لحلفائها، وإلا قد تراهم يخالفون سياساتها. تحتاج الولايات المتحدة من أجل المضي قدماً، إلى تبني استراتيجية واقعية في سورية تشبه السياسات التي نفّذها شجعان مثل نيكسون وريغان عندما تفاوضوا مع سورية.

تغيير الأولويات في المنطقة

في حين يعتقد أمثال الممثل الخاص للولايات المتحدة بشأن سورية جيمس جيفري والمبعوث الخاص لسورية جويل ريبورن أنهما يستطيعان بواسطة قانون قيصر، عزل سورية، فقد تغاضوا بوضوح عن الأولويات المتغيرة للمنطقة. لا يُخفى على أحد تعاطف جيفري المفرط مع تركيا ومصالحها في المنطقة خارج سورية. وبينما يدعم جيفري تركيا، فهو يواجه موجة متزايدة من الغضب والإرادة الدبلوماسية والعسكرية في المنطقة التي تعارض تركيا وأعمالها في سورية وليبيا والبحر الأبيض المتوسط والقرن الأفريقي. كما تُعارض كلّ من فرنسا واليونان ومصر والإمارات العربية المتحدة العمل التركي، وتنظر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى طموحات تركيا الإقليمية على أنها تهديد أكبر من إيران. علاوة على ذلك، كما يعقد احتضان إيران لتركيا استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة إيران. لذلك، إذا كانت سياسة جيفري، وبالتالي سياسة أمريكا، هي الأخذ بيد تركيا في سورية، فكيف تفسر واشنطن احتضان تركيا لإيران؟ يحدث هذا بينما تصطف الدول العربية الرئيسة الأخرى لدعم قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر في ليبيا والأسد في سورية. باستثناء قطر، تنظر جميع الدول العربية الأخرى تقريباً لتركيا على أنها تهديد مساوٍ إن لم يكن أكبر لإيران كما هو موضح في مقال رأي نشرته صحيفة عرب نيوز السعودية مؤخراً.

وبالمثل، تتّحد كلّ من روسيا والصين في استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن بشأن سورية، وفي الوقت نفسه تسخر من قانون قيصر بالمضي قدماً في خططهما الاقتصادية لسورية. تبذل الصين قصارى جهدها مع تنامي العداء الأمريكي تجاه الصين بعد الإصابة بفيروس كورونا، لتحدي أهداف الولايات المتحدة في سورية. بدأت خطة روسية صينية مشتركة بخصوص سورية في الظهور منذ عام 2018 وسيتم تسريعها بعد إعلان قانون قيصر. يبدو أن روسيا، إلى جانب الإمارات العربية المتحدة ومصر، عازمة على المضي قدماً في إعادة مكانة الرئيس الأسد داخل العالم العربي. سيضعف التحالف الإماراتي الروسي في سورية سياسة الولايات المتحدة وقانون قيصر.

كما تُظهر أوروبا استعداداً للابتعاد عن الولايات المتحدة بشأن سورية. كان هناك عدد من الآراء السياسية في مؤسسات الفكر الأوروبي التي تتماشى رسمياً مع الاتحاد الأوروبي والتي دعت إما إلى إعادة النظر في العقوبات أو إلى الانتهاك التام لسياسة الولايات المتحدة للعقوبات المفروضة على دمشق. جادَلَ الاقتصادي السوري عامر الحسين، الذي يكتب لمركز الأبحاث (مركز العلاقات الدولية) (Istituto Affari Internazionali) الذي يتخذ من روما مقراً له، بأن الوقت ربما حان للانفصال عن الولايات المتحدة بشأن السياسة الأوروبية تجاه سورية. وكتبت الفايننشال تايمز، التي غطّت بتعمق الانهيار الاقتصادي في سورية، فعلياً، بأنه لن يكون لقانون قيصر أي تأثير ملموس على الأسد أو الحكومة –بل وتجادل بدلاً من ذلك، بأنه سيؤدي فقط إلى تراكم البؤس على السوريين العاديين.

نهج كيسنجر في سورية

يمكن تعلّم الكثير من دبلوماسية كيسنجر تجاه سورية واتساقاً مع المذهب الاستراتيجي للرئيس حافظ الأسد، الذي لخصته العالمة الألمانية بنتيه شيلر في كتابها الذي يحمل عنوان “حكمة لعبة الانتظار السورية”(The Wisdom of Syria’s Waiting Game). تجادل شيلر في كتابها بأنه مهما كانت الأزمة الدولية أو الإقليمية التي واجهها السوريون على مدى العقود الخمسة الماضية، فقد قاموا باجتيازها عن طريق الانتظار. ويخلص جيمس سيبينوس في كتابه “كيسنجر المفاوض” إلى درس واضح يجب تعلّمه، وهو أن كيسنجر اعتقد أنه يمكن للولايات المتحدة فقط عن طريق المفاوضات أن تحقق تقدماً بشأن سورية، بصرف النظر عن مدى الانزعاج من مواقف دمشق في لبنان والأردن والضفة الغربية. كما يقتبس موشيه معوز، في كتابه ” أبو الهول دمشق”، نهج كيسنجر للمضي قدماً عندما يتعلق الأمر بالتفاوض مع دمشق.

تبقى هنا الفرضية بسيطة، لقد اجتازت دمشق المصائب الكبرى لبلاد الشام والخليج طوال الخمسين سنة الماضية رغم وجودها دائماً في الجانب المعاكس للولايات المتحدة. كان على أمريكا أن تفسح المجال لدمشق على مضض في لبنان حتى تجبر الإسرائيليين على الانسحاب في عام 2000. كما كان عليها أن تعترف بأهمية سورية في ما يتعلق بالتفاوض في أوسلو وكامب ديفيد. ورغم اعتقاد الإسرائيليين أنهم قدموا أفضل عرض لدمشق حتى أواخر عام 2010 عن طريق الأتراك، يبدو أن دمشق ما زالت تُصرّ على عدم اعتماد مسألة سياسية تجعلها خاضعة لمصالح الولايات المتحدة.

كما أوضح كتاب رائع بعنوان “ملعون هو صانع السلام”، يدور حول الدبلوماسية الأمريكية مع سورية في عهد ريغان، كيف كان تركيز الولايات المتحدة ينصب في الدبلوماسية السورية على حقيقة أنه في حين كان رونالد ريغان يكره التحدث إلى الأسد، مثل كيسنجر قبله، لم يكن لديه خيار آخر لحل القضايا العالقة سوى التحدث مع دمشق بدلاً من عزلها. يرى كميل ألكسندر أوتراكجي، المتخصص في المفاوضات الأمريكية السورية إبّان عهد الرئيس حافظ الأسد، أنه «عندما تولى حافظ الأسد الرئاسة عام 1970، كان يفضّل في الواقع الحفاظ على التوازن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ولكن بشروطه، على أمل أن يؤدي ذلك أيضاً إلى علاقات دافئة مع الولايات المتحدة. كانت إدارة نيكسون في البداية سعيدة للغاية، لكن أرادت الولايات المتحدة أن تتكفل سورية بتنفيذ أعمال [الولايات المتحدة] في المنطقة. لكن سورية، على عكس مصر المعزولة عن جميع الجيران، كانت تتمتع بعلاقات طبيعية مع جيرانها في العراق ولبنان وفلسطين. تستطيع الولايات المتحدة بذل جهد كبير من أجل الاستمرار في الضغط على سورية ومعاقبتها». تبقى الفرضية هنا أن شأن سورية لا يعني سورية فقط، فأي شيء يحدث داخل البلد سيؤثر على لبنان وتركيا والعراق و”إسرائيل”، وتبعا لذلك تبرز الحاجة الماسة إلى استراتيجية سليمة.

لقد نجت سورية في عهد الأسدين من العقوبات لمدة ثلاثين عاماً على امتداد خمسين سنة، فهي ليست ظاهرة جديدة. وبالمثل، كانت دمشق قادرة على الشراكة مع دول الخليج العربي كلما لزم الأمر، رغم شراكتها الأمنية المستمرة مع إيران. قطعت سورية علاقاتها مع السعودية وأصلحتها في ثلاث مرات على الأقل. يتمتع تحالف الإمارات والبحرين الحالي بمباركة السعودية، ورغم قانون قيصر، فإن الخليج سيتطلع في نهاية المطاف إلى دعم الرئيس الأسد ضد تركيا التي يُنظر إليها الآن على أنها التهديد الرئيس في بلاد الشام. علاوة على ذلك، مع وجود لبنان على حافة الانهيار الاقتصادي والفوضى الإضافية في العراق، لن يرغب اللاعبون العرب الرئيسون مثل الإمارات ومصر والمملكة العربية السعودية في أن يزيد قانون قيصر من إضعاف سورية نظراً لمركزيتها بالنسبة للعراق ولبنان.

لقد أخطأ المعلقون عندما قد قالوا إن بشار الأسد لن يستمر طويلاً بعد وفاة والده. قالوا إنه لن ينجو من عالم ما بعد 11 أيلول/سبتمبر، وسقوط بغداد عام 2003، والانسحاب العسكري السوري من لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005. قالوا إنه سيسقط في غضون أسابيع في عام 2011. لطالما كانت هذه الأصوات خاطئة. لن يُضعف قانون قيصر الأسد أو نفوذ السوريين في المنطقة. وبصرف النظر عن مدى عزلة دمشق، إلا أن سورية ستخرج منها. بعد كل شيء، لم يكن كيسنجر وحده الذي شدّد في تحليله على مركزية سورية في المنطقة. فقد حذّر زبيغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكروفت، وهما من أقوى مناصري الأمن القومي الأمريكي لأكثر من أربعين عاماً، في عام 2015 من أن محاربة الأسد لا معنى لها، وفي مرحلة ما، سيكون التحدث وعدم العزلة هو السبيل لإنهاء إراقة الدماء. كتب ويليام بيرنز في كتابه الأخير عن الدبلوماسية الأمريكية، “القناة الخلفية”، عن منطق كيسنجر وبريجنسكي البارد حول الحاجة إلى تخفيف الرغبة في الإطاحة أو الضغط على الأسد. وكتب في عام 2020 كيف كان جيمس بيكر وبرنت سكوكروفت أيضاً سيستخدمان الواقعية بدلاً من الأيديولوجية للتعامل مع الأسد. وتحدث بيرنز أيضاً عن كيف كانت الإمارات، على وجه الخصوص، أقل اقتناعاً بإزاحة الأسد.

 

الجمل بالتعاون مركز دمشق للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *