أقلام الوطن

مجزرة دير ياسين الوحشية ومسؤولية الحكومة البريطانية

 د. غازي حسين

قامت العصابات الإرهابية اليهودية المسلحة شتيرن والأرغون وبموافقة عصابة الهاغاناه في التاسع من نيسان عام 1948 بإبادة قرية دير ياسين الفلسطينية عن بكرة أبيها، وذلك بقتل جميع سكانها البالغ عددهم آنذاك 279 وكلهم من المدنيين ومعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ وقامت بارتكاب هذه الجريمة النكراء لسببين:

الأول: بسبب موقع دير ياسين الاستراتيجي الذي يقع على مرتفع يشرف على القدس الغربية وعلى الطريق التي تربطها بتل أبيب كمقدمة لاحتلال القدس.

والثاني: استغلال المجزرة الجماعية لإدخال الرعب في قلوب الفلسطينيين لحملهم على ترك قراهم وبلداتهم وترحيلهم لإقامة «إسرائيل» في 15 أيار 1948 ولتحقيق التطهير العرقي.

وكانت نتائج المجزرة نقطة تحوُّل خطيرة في حياة الشعب الفلسطيني، حيث أدت إلى نشر الذعر والخوف بين العرب، وأثرت في معنوياتهم، وأدت إلى ترحيل حوالي 900 ألف فلسطيني من ديارهم.

وبلغ عدد القرى الفلسطينية المدمرة منذ نيسان 1948 وحتى نهاية الحرب عام 1949 التي أشعلت إسرائيل حوالي 540 قرية فلسطينية.

وأكد المؤرخ الإسرائيلي ملشتاين أن مردخاي رعنان تحدث في المؤتمر الصحفي الذي عقدته عصابة شتيرن والأرغون الساعة الثامنة من مساء يوم المجزرة وأعلن أن عدد القتلى العرب 254، وأن محطة الإذاعة البريطانية أعلنت في الليلة نفسها هذا الرقم قائلة إن معظمهم من الأطفال والنساء، وأعلن السفاح مناحيم بيغن، رئيس عصابة الأرغون الإرهابية في ليلة المذبحة قائلاً: «إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع» ووجه رسالة إلى القادة اليهود الذين نفذوا المجزرة جاء فيها: «تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادة إننا نصافحهم ونفتخر بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل، وإلى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها سنقتحم ونبيد العدو، ربنا لقد اخترتنا للفتح».

وجاء في البيان الذي أصدرته منظمة إتسل الإرهابية في التاسع من نيسان 1948: «إن قرية دير ياسين قد احتلت بأكملها، وهي الآن في أيدينا، وتم حتى الآن إحصاء 240 قتيلاً عربياً، كما وقع في أيدينا أسرى عرب». واعدموا 25 أسيراً، وبالتالي يكون عدد ضحايا مجزرة دير ياسين 279.

وكتبت هداسا أفيغدوري، وهي من عناصر قوة البالماخ الإرهابية التي اشتركت في مذبحة دير ياسين في يومياتها تقول إن موشي ديان جاء عند المساء إلى المعسكر الموجودة فيه وانتظرتُ حتى أسمع من أحد القادة كلمة تعبّر عن الاشمئزاز أو الغضب أو الأسف لما حصل في دير ياسين أو تدعو إلى التقيد ببعض المبادئ الأخلاقية، وانتظرت أن يعبّر ديان عن هذه المشاعر أو على الأقل أن يحدد ما يجوز عمله أثناء القتال وما لا يجوز ولكن لم يتكلم أحد من القادة في هذه الأمور.

ارتكب الإرهابيون اليهود المجزرة، وحكومة الانتداب البريطاني كانت لا تزال موجودة في فلسطين. وكان مقر المندوب السامي البريطاني لا يبعد إلاَّ عدة كيلو مترات عن مسرح المذبحة.

وفي اليوم التالي للمجزرة أي في 10 نيسان وزعت عصابتا شتيرن والأرغون بياناً جاء فيه:

«إن وحدات شتيرن والأرغون هاجمت دير ياسين واحتلتها، وإن مجموعات كثيفة من المسلحين العرب كانت قد تمركزت في القرية وباشرت في إزعاج المناطق اليهودية في القدس، وأنه وردت معلومات عن وصول إمدادات من الجنود العراقيين والسوريين إلى دير ياسين بهدف الهجوم على هذه المناطق اليهودية، وأنه بعد إجلاء النساء والأطفال عن القرية باشر الجنود بنسف المعاقل على العشرات من رجال العدو الذين قضوا تحت أنقاضها، وأن مكبراً للصوت ناشد الأطفال والنساء مغادرة القرية فوراً، وأن الكثير من الأطفال والنساء أنقذوا نتيجة ذلك».

وكان العدو الصهيوني يعلم علم اليقين بأنه لم تتمركز قوات عسكرية سورية وعراقية في القرية على الإطلاق، ولم تصلها نجدات عربية، ولم تهدد دير ياسين في يوم من الأيام المستعمرة اليهودية القريبة منها، بل وقّعت مع مستعمرة جفعات شاؤول معاهدة «عدم اعتداء» خلافاً لموقف الهيئة العربية العليا في القدس الرافض لذلك، وبالتالي ظهر بجلاء أن اليهود أساتذة كبار في فن الكذب والخداع والتضليل.

وظهر كذب بن غوريون بجلاء عندما أعلن أن قواته لم تشترك في المذبحة وأدانتها، ولكن الوثائق أثبتت مشاركة قوات البالماخ التابعة لعصابة الهاغاناة الإرهابية فيها وعلمها المسبق بها فكتب أرييه يتسحاقي في يديعوت أحرونوت في 14/4/1972 يتهم عصابة الهاغاناه التابعة إلى بن غوريون بارتكاب عشرات المجازر وقال: «إن معركة دير ياسين كانت إلى حد كبير معركة تقليدية لاحتلال قرية عربية عام 1948. ولقد نفذت عشرات العمليات من هذا النوع بأيدي جنود الهاغاناه و البالماخ في الأشهر الأولى من حرب الاستقلال».

ودافعت عصابة الهاغاناه عن نفسها ببيان أصدرته في 12 نيسان أكدت فيه أن ما قامتا به شتيرن والأرغون كان لمجرد التباهي لأغراض الدعاية.

وردت العصابتان الإرهابيتان شتيرن والأرغون في بيانين بتاريخ 12 و14 نيسان أكدتا فيه أن الهدف من احتلال دير ياسين هو من أجل «تحرير القدس»، وأن قائد الهاغاناه في القدس دافيد شاتئيل قد أكد أن احتلال دير ياسين كان من ضمن خطة الهاغاناه، وأن احتلالها أوقع الرعب في القرى المجاورة فتساقطت أمام هجمات الهاغاناه  وأدت إلى موجة هروب العرب الهائلة خوفاً من الذبح تماماً كما حدث في دير ياسين.

وكانت الوكالة اليهودية قد شكلت أول لجنة لترحيل الفلسطينيين عام 1937.

الصليب الأحمر الدولي والمجزرة

كان الفرنسي جاك دو رينيه، مندوب الصليب الأحمر الدولي في القدس أول من دخل دير ياسين بعد إبادة سكانها عن بكرة أبيهم، وقال إن العرب في القدس اتصلوا به هاتفياً يوم السبت في 10 نيسان وطلبوا منه التوجه فوراً إلى دير ياسين، فاتصل بالوكالة اليهودية و بقيادة الهاغاناه، فأنكرا علمهما بالمجزرة، وقيل له إن لا علم لهما بما حدث، ونصحوه بعدم التدخل كي لا يقضي بذلك على مهمته الإنسانية ويسيء إليها، ورفضوا تقديم الحماية له إذا ما قرر دخول القرية.

فأجابهم بأنه مصمم على الذهاب إلى القرية، والتأكد بنفسه مما حدث، وحمّل الوكالة اليهودية مسؤولية حمايته، وتمكن من دخول دير ياسين في سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في 11 نيسان 1948.

وصف ممثل الصليب الأحمر الدولي ما شاهده في دير ياسين وقال: «إن المسلحين اليهود كانوا مدججين بالسلاح، يحملون الرشاشات والمسدسات والقنابل والسكاكين الطويلة».

وكان معظم السكاكين ملطخاً بالدماء. واقتربت مني شابة وسيمة وأرتني بتباه سكينتها التي ما زالت تقطر دماً، وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير للإجهاز على الجرحى. ووصف دخوله إلى أحد المنازل وقال إن الواضح لكل عين ترى أن التطهير جرى بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية، وأكمل بالسكاكين.

وقال الطبيب اليهودي ألفرد أنغل الذي رافق ممثل الصليب الأحمر الدولي «لقد خدمت مدة خمس سنوات في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، ولم أر مشهداً مفزعاً كهذا».

ثبت بجلاء أن الدافع الأساسي لإبادة جميع أهالي قرية دير ياسين هو لتحقيق الترحيل الجماعي للفلسطينيين واحتلال القدس الغربية، ومصادرة الأراضي والأملاك العربية وتهويدها كمقدمة لإقامة إسرائيل في 15/5/1948.

علّق الإرهابي مناحيم بيغن على مجزرة دير ياسين في كتابه «الثورة» وقال: «أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم، وسرعان ما تحول الهرب الجماعي إلى اندفاع هائج جنوني لا يمكن كبحه أو السيطرة عليه، إن الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذا التطور لا يمكن المبالغة فيها مهما قيل».

 

مسؤولية الحكومة البريطانية عن المذبحة:

عقد د. حسين الخالدي رئيس بلدية القدس مؤتمراً صحفياً في القدس عندما تلقى نبأ المجزرة قال فيه إنه اتصل فور وصول الأنباء عنها بقيادة الشرطة والجيش والحكومة المدنية البريطانية في القدس، طالباً إيفاد من يتحرى الأمر، لكنهم جميعاً رفضوا تلبية طلبه.

بعث المندوب السامي البريطاني في فلسطين برسالة إلى وزير المستعمرات في لندن يوم الاثنين الموافق في 12 نيسان 1948 جاء فيها: «ما زالت قرية دير ياسين في أثناء كتابتي هذه السطور في يد اليهود، أردت أن يضرب جنودنا اليهود في دير ياسين بكل ما لديهم من قوة ويطردونهم منها، لكن الجيش يقول لي أنه ليس في وضع يمكنه من القيام بمثل هذا العمل، أو بأي عمل يؤدي إلى صدام عام مع أي من الطرفين».

واعترف وزير المستعمرات اليهودية كريتش جونز في 12 نيسان أمام مجلس العموم البريطاني بالعجز عن وصف وحشية اليهود في دير ياسين، ووصف المجزرة بأنها جريمة وحشية شنيعة شأنها جعل الوصول إلى تسوية سلمية أمراً بعيداً.

إن الحكومة البريطانية والجيش البريطاني يتحملان كامل المسؤولية عن مجزرة دير ياسين لأنهم قصروا في توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين، وبالتالي قصروا بالقيام في واجباتهم في حفظ الأمن والاستقرار في فلسطين والمحافظة على حياة المدنيين فيها، كدولة منتدبة تحكم البلاد، وتسيطر عليها، وتعهدت أمام عصبة الأمم والأمم المتحدة المحافظة على الأمن والاستقرار فيها.

إن من أبسط حقوق شهداء وضحايا مجزرة دير ياسين وعشرات المجازر الصهيونية الأخرى وحروب إسرائيل ـ العدوانية، علينا أن تعمل الحكومات والاتحادات المهنية والمنظمات الشعبية العربية والإسلامية على تقديم قادة الكيان الصهيوني إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم كمجرمي حرب أسوة بمجرمي الحرب النازيين، و تخصيص يوم عربي وإسلامي وعالمي في التاسع من نيسان من كل عام لكشف جرائم، التطهير العرقي التي ارتكبتها إسرائيل بحق شعبنا العربي الفلسطيني وممارستها للاستعمار الاستيطاني والإرهاب والعنصرية والتطهير كسياسة رسمية..

 

د. غازي حسين

عضو جمعية البحوث والدراسات-اتحاد الكتاب العرب بدمشق عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين –عضو رابطة الكتاب الاردنيين ولد بتاريخ 10/9/1938 في بلدة سلمة (قضاء يافا) التي احتلتها العصابات اليهودية المسلحة بعد مجزرة دير ياسين في أواخر شهر نيسان عام 1948. أنهى الدراسة الابتدائية والثانوية في كلية النجاح الوطنية بنابلس. انتخب عام 1954 كرئيس لمؤتمر الطلبة الأردني بلواء نابلس. اعتقل عدة مرات في الأردن ونفي إلى معتقل الجفر بسبب نشاطاته السياسية. بدأ دراسة الحقوق في الجامعة السورية بدمشق وأكملها في ألمانيا ونال هناك الماجستير في الحقوق عام 1962، ودكتوراه في القانون الدولي عام 1966، ودكتوراه في العلوم الحقوقية عام 1974. مارس تدريس القانون الدولي في جامعات ألمانيا ودمشق (المعهد العالي للعلوم السياسية). عمل كمستشار في القصر الجمهوري بدمشق وكسفير لمنظمة التحرير الفلسطينية لدى الحكومة النمساوية في فيينا، وكممثل للمنظمة لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووكالة التنمية الصناعية (يونيدو) في فيينا. وشارك في أهم المؤتمرات الدولية التي عالجت قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني، و كمستشار قانوني ورئيس إدارة في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بدمشق، وعضو سابق في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، وعضو سابق في القيادة العامة لطلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة ورئيس الدائرة السياسية وأمين سر اللجنة العربية لمكافحة الصهيونية والعنصرية، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الأحزاب العربية، وعضو الأمانة العامة في التجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة وعضو هيئة تحرير مجلة الفكر السياسي في اتحاد الكتاب العرب. مؤلفاته: 1-اسرائيل الكبرى والهجرة اليهودية- دراسة.1992. 2-الفكر السياسي الفلسطيني-1963- 1988- مطبعة رانيا عام 1993. 3-الصهيونية ايديولوجية عنصرية كالنازية (بالعربية عام 1968) و(الألمانية عام 1971). 4-الغزو الاسرائيلي للبنان- (مجموعة من الباحثين) دمشق 1983. 5- انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان العربي عام 1969. 6- الهجرة اليهودية وأثرها على طاقات إسرائيل الاقتصادية والعسكرية عام 1974 بالعربية وعام 1975 بالإنكليزية. 7- فلسطين والأمم المتحدة عام 1975. 8- عدالة وسلام من أجل القدس، باللغة الألمانية في فيينا، عام 1979. 9- النظام الإقليمي والسوق الشرق أوسطية عام 1994. 10- الصراع العربي - الإسرائيلي والشرعية الدولية عام 1995. 11- الشرق أوسطية إسرائيل العظمى، دمشق 1995. 12- الصهيونية زرع واقتلاع (اتحاد الكتاب العرب - دمشق) 1966. 13- ياسر عرفات من التوريط إلى التفريط - دمشق 1996. 14- القمم والمؤتمرات الاقتصادية والأمنية: من التطبيع إلى الهيمنة - اتحاد الكتاب العرب - دمشق عام نبذة مأخوذة من موقع اتحاد الكتاب العرب بدمشق عن الدكتور غازي حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *