أقلام الوطن

كورونا: لا توجد يد خفية .. أيهما أنظف يد الصين أم الغرب؟

د. عادل سماره
د. عادل سمارة

د. عادل سماره

 

لم يعد السؤال في الغرب الراسمالي عن  مدى أو وجوب  التقيُّد بأسس الاقتصاد السياسي البرجوازي بل عن مَن الأقدر على تجاوزها وفي زمن اقل! كان من الصعب هز أسس هذا النظام الاقتصادي سواء لسطوة الإعلام أو هيمنة الفكر أو غياب وضعف  البديل النقيض إلى أن كان الوباء الذي كشف بأن شروط مواجهته، أي الوباء،  كانت غائبة مغيبة، بمعنى أن ذلك كان ممكنا ولكنه لم يكن على أجندة رأس المال. فالاستثمار في إنتاج الأدوية له الأسبقية على الاستثمار في أدوات ووسائل الوقاية مما يدعم الشك بأن الأمراض ضرورية لسلخ الأرباح بغض النظر إن كان هناك تصنيع مقصود من مجرمين محددين أم لا.

أمام هذه الصدمة تهاوتا ذاتياً أشد قلعتين في الفكر الرأسمالي الكلاسيكي على يد النظام نفسه: اليد الخفية وحرية التجارة. 

 اليد الخفية:

 بين عشية وضحاها إختفت اسطورة اليد الخفية التي زعم آدم سميث الأب المؤسس للاقتصاد الرأسمالي أنها وحدها ، وبعيدا عن تدخل الدولة، تنظِّم الاقتصاد وتعيد له توازنه. لكن أزمات الراسمالية المتعاقبة، طالما كشفت أن هذه اليد ليست موجودة، وبأن اليد الدولانية العملية هي التي تقوم بالدور. فليس من قبيل المعقولية أن يكون الناس وراء الأشياء، كمنتجين يخلقونها   وكمستغِلين ينظمونها و يخلطونها تناقضيا ليربحوا ثم يتركون حبلها على غاربه. هذا دون أن نبتعد لنقرأ كم من الناس أي من الطبقات الشعبية وخاصة فقراؤها جاعت وماتت خلال الأزمة، أية أزمة، إلى ان جرت استعادة التوازن بل إعادة التوازن مما يكشف بأن جوهر ونتائج أية أزمة هو طبقي ضد طبقة/ات ولصالح واحدة.

لذا، نرى اليوم، أنه لمواجهة الوباء يتسابق المفكر الاقتصادي البرجوازي مع رجل الدولة الراسمالية التي تبنت النيولبرالية على وجوب تدخل الدولة بل تدخلها عميقاً. وبالطبع، من المضحك أن البرجوازيين طالما ثرثرو عن خروج أنظمة الاشتراكية المحققة عن اسس ماركسية، بينما هم خرجوا أيضاً  وأبعد.

الشعور أو القلق من العجز:

إلى  جانب تجاوز ابتعاد الدولة عن التدخل في الاقتصاد، أي دعوة الدولة لتقود الاقتصاد يتضح  وهم اليد الخفية بأن الاقتصاد يعود ذاتيا إلى التوازن دون تدخل الدولة بل وصل القلق لدى بعض هؤلاء الاقتصاديين بأن تدخل الدولة قد لا يحل المشكلة، بمعنى أن قدرة الحكومة على التصدي أو توفير دفعات مالية هائلة ليس قيد الإمكان .عن هذا عبَّر جافين ديفز في صحيفة  فايننشال تايمز بقوله:

“…  ربما يقود الركود القادم إلى عملية اندماج… بين ما أُعتيد على وصفه ب جَناحي السياسة الكلية  اي المالي والنقودي. لعله سؤال صعب على الاقتصاد السياسي سواء فيما يخص المصرف المركزي أو الخزينة ذلك لأن الترتيب الأفضل ان يقوما معاً بتصميم سياسة فعالة كرد على هذه الحالة .مرت اليابان بهذا الوضع لعدة سنوات ولكنها فشلت حتى الآن في قطع عقدة  غورديان- العقدة العصية (ع.س). إن على صانعي السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا أن يعيدوا التفكير بشكل جيد ومسبقا في كيف عليهم أن يتعاونوا عالميا ومحليا للوصول إلى نتائج أفضل. لا يلوح في الأفق  أن هذا سيحصل”

ما أبعد هذا الحديث عن الدور المتخيل لليد الخفية، وكم يصبح صعباً على أساتذة الاقتصاد تبريره  لطلبة الاقتصاد حتى للصفوف الجامعية الأولى. 

إلى أن يضيف: “…ربما هناك بلد واحد الذي بوسعه  القيام بذلك. فأخذا بالاعتبار حجم قطاع الدولة وقيادة الحكومة في الصين، فإن دعما ماليا بوسعه إعطاء مفعول اكبر بكثير كما فعلت خلال ركود 2008-09، حينما واصلت الصين النمو بينما هوت أغلب الإقتصادات في  انخفاض أو تباطؤ بشكل حاد. إن الحكومة الصينية جاهزة للإنفاق والاستثمار في الوقت المناسب لتعيد  الأمور كما كانت حالما ينتهي وباء الفايروس”.

يأخذنا هذا إلى مفارقتين:

الأولى، قيام الحكومات في البلدان الرأسمالية الغربية بتخصيص ترليونات الدولارات لتصبها في البنية الاقتصادية كي تدور العجلة الاقتصادية الاستهلاكية تحديداً، بمعزل عن الآلية الطبقية لتوزيع السيولة حيث تتركز لصالح الشركات الكبرى وخاصة الطيران التي تعاني الإفلاس بينما ما يرشح للطبقات الشعبية، وهي الأكثرية، هو النزر اليسير. المهم ان الدولة تتدخل بل تصل حدود تأميم مصالح عامة حيوية.

والثانية: أن إيديولوجية رأس المال يشنون هجوما عاتياً ضد الصين الشعبية بوصف النظام هناك بالشمولية والاستبداد وبأن نجاح الصين في محاصرة الوباء، في هذه المرحلة على الأقل، يرتد إلى الضبط الاستبدادي للمجتمع. ولكن لا يخفى أن النظام في الصين ليس نظاما اشتراكيا كالمألوف على الأقل أيضاً. بل إن قدرته على تجاوز الأنظمة ناجمة عن قوة قطاع الدولة في الاقتصاد وليست ناجمة عن “الاستبداد” أو عنه وحده. 

فالدولة في الصين الشعبية تتصرف كمسؤولة أمام الشعب وليست فقط مسؤولة عن الشعب، وهذا واضح من سياساتها للحماية الاجتماعية. وهذا شكل ديمقراطي لا يألفه الغرب الرأسمالي، ومسؤوليتها أمام الشعب هي تكليف لها بضمان حياة كل مواطن/و، كل جيل، ولذا ربما أنتجت أدوات الوقاية الصحية  قبل أدوات الربح لمعالجة الأمراض بمعنى أن الهدف هو الوقاية كي لا يحصل الاضطرار للعلاج ولا مانع لدينا للتوقع بأن هذا الاهتمام هو من موروث الصين في فترة ماوتسي تونغ. من هنا تعهد الدولة بتوفير العلاج والعمل والتعليم المجاني وهذا المعنى الأسروي الذي نقصد.

أما حديث الاقتصاديين البرجوازيين عن قدرة الدولة في الصين على توفير الضخ المالي الكافي لضبط وتحريك السوق، فذلك لأن القوة المالية هي بيد الدولة كمسؤولة عن المواطن ومسؤولة أمامه وإن لا مباشرة بمعنى أن الحزب الشيوعي يعلم بأن من أسباب بقاء النظام توفر وعي السلطة بمسؤوليتها عن المجتمع وهذا يخالف مزاعم الغرب بأن النظام في الصين يعيش معتمدا على استبداد مطلق.

المهم في مسألة توفير السيولة المالية للاقتصاد فإن هذه السيولة بيد الدولة كمكلفة بحماية المجتمع وليست  بيد قلة من الأفراد  ليسوا مسؤولين أمام المجتمع بل يستغلونه، وهذا الفارق بين دكتاتورية، إن صح التعبير، مسؤولة وعلنية وبين ديكتاتورية مخفية تتنصل من كل شيء، فمن هي الشمولية المتوحشة إذن؟

ولكن، دعنا ننتقل من هذا الطرح إلى مسالة تبدو بعيدة، لكنها في صلب التطورات. فالوضع الجاري في بلدان الغرب عموما هو تخلف دور الدولة ووجوب تدخلها وتفنيد تقصيراتها في محاولات لاستعادة التوازن. ولكن إلى جانب هذا، كيف يمكن توافق “حكومة” المال وخاصة بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وهو بنك خاص وبين الحكومة المشرفة على الميزانية؟

حتى الآن يدور الحديث أن الطرفين سوف يضخان سيولة، ولكن كل طرف بقصد:

الطرف الأول: الحكومة: فحكومة ترامب/و وعدت بأن تعمل جهد نفسها لاستعادة الشركات  الأمريكية من الخارج وخاصة من الصين، وتجادل الآن بقوة لإعادة تشغيل القطاعات الاقتصادية رغم الوباء، ولذا تخصص مبالغ متباينة المقدار وهي لا تقل عن 2 ترليون دولار لضخها في الاقتصاد ولكن على أساس طبقي، أي الأكثر للأغنى والأقل عددا (المصارف، شركات الطيران، النفط والسياحة) مع مقادير هامشية للطبقات الشعبية.

يقوم هذا التدخل على نظرية جون مينارد كينز وخاصة الجانب منها المتعلق ب الطلب الفعال Effective Demand، اي تفعيل الطلب بقيام الحكومة بضخ أموال تصل إلى أيدي المستهلكين مما يقود إلى نشاط الطلب والخروج من الكساد الذي تلا الركود. 

ويقود هذه المحاججة اليوم أحد كبار الاقتصاديين في المدرسة الكينزية بول كروجمان حيث يجادل بأن مواجهة كورونا تحتاج دورا وإنفاقًا واسعا من الحكومة الأمريكية على سبيل المثال. 

وبغض النظر عن رأي كروجمان بشأن دور تمويلي من الدولة، أو آخرين ينادون بدور مزدوج لكل من الدولة والبنك المركزي أي السياستين المالية والنقدية، و بمعزل عن أن الطغمة المالية/ الممولنة تخطط لإقامة حكومة عالمية مما يتناقض مع الدولة القومية ذات التوجه الإنتاجي الحقيقي، ولهذا نقاش آخر، فإن ما تجدر الإشارة إليه بأن الحالة المعطاة في الاقتصاد العالمي وخاصة في مركزه أنها حالة ركود لم ينجم عن نقص في الطلب الذي لو حصل لا بد من معالجته بضخ سيولة بين أيدي المستهلكين، بل كما أشرنا في أكثر من مقال سابق، هو ناجم عن مشكلة في العرض:

  •  بسبب الركود وانتقاله للكساد
  • و/أو بسبب إضافي أي  الإغلاق.

وعنهما نجم نقص في الإنتاج، والإستثمار والتجارة، وعليه، فإن السياسة أو الحلول الكينزية ممثلة في الحلول النقودية لن تحل المشكلة لاسيما وأن معدل او نسبة الفائدة هي قريبة من الصفر، ومع ذلك لا يحصل إقبال القطاع الخاص على الاستثمار،  أو أن المستهلكين توقفوا عن الإنفاق، بل لغياب ما هو مطلوب للاستهلاك! لذا قال جون كونليف نائب حاكم بنك بريطانيا، أي المصرف المركزي:

“… بما أن وباء كورونا هو صدمة عرض محضة فليس لدينا ما نفعله”

ملاحظة لازمة: ارتكز النمو العالي في الصين الشعبية على القاعدة التي تأسست في فترة ماو تسي تونغ حتى 1978، وهي النمو بمضمون اشتراكي. بدورها، فإن القيادة التي سيطرت على السلطة وخاصة دينغ هيساو بينغ  قررت الحفاظ على معدلات النمو ولكن على أسس مزدوجة بين الراسمالية والاشتراكية تحت عنوان “الاشتراكية على الطريقة/أو بسِمات صينية” إلى جانب انفتاح واسع على الغرب الرأسمالي في حقبة العولمة لنقل التكنولوجيا، ونجحت في ذلك لما هو أبعد من مجرد أن تكون الصين ورشة تصنيع بسيط للعالم بل مستقلة في التكنولوجيا عالية التقدم. هذه المزاوجة بين الراسمالية والاشتراكية لم تحافظ على ديكتاتورية الحزب الواحد فقط ،و للتناقض، أفرزت بالضرورة بُنى طبقية هي التي حاول ماو تصفيتها في نضاله ضد “طرائقيوا رأس المال”. أما أحد دروس كورونا فقد اثبت أن ديكتاتورية الحزب الواحد هي إنسانية أكثر من ديكتاتورية فردانية رأس المال الغربي في حقبة العولمة. 

ولعل الدرس الذي علينا استخلاصه هو إن ما يجب النصال لأجله :الوصول إلى سلطة المنتجين والتي تبدأ من ديمقراطية مكان العمل. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *