أقلام الوطن

تخطِّي الوعي الملتبس كرؤية لما بعد الوباء

د. عادل سماره

 

يوم، يومان، اسبوع واكثر بعدها يصبح الحديث عن الوباء مجرد تكرار يثير السأم والملل، ومع ذلك يواصل كثيرون مضغ الكلام في الوباء رغم أنه إزعاج بحت. أما الإعلام فيكاد لا يقدم سوى أخبار الوباء في سباق على إغواء الرأي العام كمشاهدين له لاحقاً ومتابعين للسلع التي يروجها ويقبض على ذلك نصيباً وافراً لأن الإعلام هو المال والربح وبالتالي يريد إبقاء الناس مرتبطة به لما بعد الأزمة. رأس المال لا ينسى هدفه ابداً حتى في المِحَنْ بل يجد في المحن فرصة أفضل حيث يضرب بحرية أكثر وباستسلام من البسطاء أكثر. أما مواصلة الضخ الإعلامي فيقود إلى  تكريس عجز الناس عن فهم شيء سوى أن هناك وباء ينتظرونه باستسلام خاصة وأنهم بلا عمل وأكثرهم بلا مداخيل!

 

لماذا أقول أنظروا، اقرؤوا واكتبوا عن المستقبل؟ 

وذلك لسببين:

الأول: لم يعد هناك من لا يحفظ عن ظهر قلب وجوب الحذر والنظافة والابتعاد…الخ ولكن من غير الحكمة إغلاق كل شيء وخاصة مواقع الإنتاج.

والثاني: لأن ما سيحدث سيحدث ولذا يكون الأمل في التفكير في المستقبل بمعنى بماذا تفكر الناس بعد الوباء، ماذا تقول الناس اليوم من أجل الغد؟

لأن في هذا تأسيس لرؤية ومفاهيم ومواقف ونضال اجتماعي إنساني لعدم وقوع البشرية بيد بعضها المريض والجشع والعنصري والمتسلط في كوارث مشابهة.

إنما كيف؟

إنه التخلُّص من الوعي الزائف أو المحتار أو المرتبك الملتبس، اي الوعي الناجم عن هيمنة راس المال التي باتت تحرك 99 بالمئة من البشرية كالدمى أو كما ورد في الاية الكريمة “وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد”.عذاب اليوم هو عذاب راس المال.

كنت اقرأ دراسة في مسألة نظرية فلسفية قائمة على واقع اجتماعي فعلي عنوانها “الوعي الملتبس”، كتبها الفيلسوف الشيوعي الفرنسي هنري لوفيفر والدراسة التي تناقش المسألة النظرية خاصة لوفيفر هي  للكاتب آندي ميريفيلد في مجلة مونثلي ريفيو: 

    (By Andy Merrifield March 1,2020 Mystified Consciousness)

 

 يقول الكاتب، يجادل لوفيفر بأن وعي الطبقة العاملة، (نطلق عليها اليوم الطبقات الشعبية-ع.س) ، في أوروبا منذ ثلاثينات القرن العشرين هو وعي ملتبس ومشوه. ويبدأ من تصويت العمال لصالح هتلر مما أوصله إلى السلطة رغم أنه ممثل البرجوازية، وينتقل ميريفيلد إلى المقارنة مع انتخاب نفس الطبقة ل دونالد ترامب وهو بالطبع الممثل المباشر لرأس المال الاحتكاري و لتحديد الشركات وبتحديد أكثر مالكيها ومدرائها واندغامها مع رأس المال المصرفي والذي من كبائر الذنوب ذكره دون ذكر أنياب روتشيلد و روكفلر. وتنتهي المقالة بإشكالية الطبقة العاملة في بريطانيا التي انتخبت بوريس جونسون زعيم حزب المحافظين المغرق في الفكر البرجوازي والعنصري والممثل لمصالح رأس المال وارتباط بريطانيا بأمريكا وهزيمة كوربن. والذي لخص موقف بوريس جونسون بحديث عن “مناعة القطيع” بمعنى، “أُنج سعد هلك سعيد” لا تلتفت إلى من هو خلفك أو بجانبك، دعه يسقط وواصل العَدْو.

هذا من حيث التجليات السياسية في الديمقراطية المتهالكة في الغرب الراسمالي، أما جوهر المقالة والذي أعرض بعضه ففي المستوى النظري.

حينما كتب  لوفيفر عن الوعي الملتبس، وربما (الوعي المضاد لحامله-ع.س)، أو بقوْلة مظفر النواب: “‘إن الواحد منَّا يحمل في الداخل ضده” ، رد عليه جورج بوليتزير الماركسي ايضاً مدافعا عن عقل جماهير البروليتاريا حيث كتب لرفيقه السابق اي لوفيفر: ” ليس هناك من وعي ملتبس بل الإلتباس هو فقط لدى ذوي الوعي الملتبس” أي يرونه ملتبساً ويقصد بالطبع لوفيفر. لكن لوفيفر كان يرتكز على ماركس في نقده ل هيجل بقوله:

“إن أشكال الوعي ” ك دماغ بدون إنسان، كما لدى هيجل، يحول الإنسان إلى إنسان الوعي، بدل تحويل الوعي إلى وعي الإنسان الحقيقي”

حيث جادل لوفيفر بأنه في وضعية الخلط ليس شرطا أن تمثل  أشكال الوعي الفردي ولا الجمعي معياراً للحقيقة ذلك لأن مختلف أنماط الوعي الحديث ملوثة بالايديولوجيا، بسلطة او قوة الدولة، والإعلام الجديد وثقافة الاستهلاك. فالعديد من انواع السلطة تدخل رؤوس الشعب، تعبىء ادمغتهم، وتضع ملاية/ستارة على عقلهم فتحرِّف وتغش ما كان يجب ان تكون عليه الحقيقة. 

في زيارته لألمانيا 1932 صُدم لوفيفر بالتحجر الهائل للحزب الشيوعي الألماني وجهازه الإداري، حيث كتب بأن “أمميته القاسية/الفظَّة هي غالبا مثل قساوة/فظاظة قومية هتلر”.

لقد تنبه لوفيفر إلى مشكلة أنه لا الحزب الشيوعي ولا حتى الاشتراكيين الديمقراطيين بزعامة رودلف هلفريدنج قد تنبهوا إلى قوة هتلر. 

ويضيف ميريفيلد: كان رد لوفيفر على الوعي الملتبس بالتهديف على رفيقه جورج لوكاتش، “…بأن الهدف المقنَّع ل لوفيفر هو جورج لوكاش ،مؤلف كتاب “التاريخ والصراع الطبقي” الصادر عام (1923) والذي أصبح المرجع الأساسي للماركسيين في الأممية الثالثة.  كان التشيُؤ مسألة حاسمة لدى لوكاتش حيث انه في المجتمع الراسمالي تأخذ العلاقات بين الناس شكلا وهميا للعلاقات بين الأشياء. ف لوكاتش يرى بإمكانية اختراق التشيؤ وكشفه وتجاوزه على يد العقل العارف الذي يعمل بمعرفة تامة لنفسه ، يعمل بحالة موحدة، لفهم الكلية التاريخية “.

 والمقصود هنا المقولة المعروفة ل لوكاتش بأن وعي الطبقة العاملة هو ذاتي ، اي تعي بذاتها وليست بحاجة لمن يوعيها، أي الحزب مثلاً.

يقول لوكاتش: “…فالبروليتاريا  بوسعها انجاز وعيها بوضعها الحقيقي.  في فعل المعرفة يتطابق الذات والموضوع : فالمكونات  التأملية والعملية للمعرفة تنصهر معا في وعي البروليتاريا. فمعرفة البروليتاريا الذاتية للمجتمع  تتطابق مع التحويل الثوري للرأسمالية.:أي الحركة نحو الاشتراكية ووعي هذه الحركة هي الشيء نفسه فلم تعد المعرفة ظاهرة ثانوية ، ولا مجرد انعكاس للموضوعات الخارجية  بل اندماج مع الفعل الثوري للبروليتاريا” Lukacs G. History and Class Consciousness, Chapter 2, 1971 , London, Merlin Press) 

“… هنا يضعنا لوكاتش في موقف حرج. فانتقاص قدرة البرولتاريا أو القول بتقصيرها عن إنجاز الوعي الطبقي الجذري المتوجب تحصليه لأجل الثورة يضعها في موقع نخبوي ثقافوي أو موقع الانحياز غير المباشر للبرجوازية التي تعي كطبقة دورها ومصالحها، فكيف تُؤخذ/تُسلب من البروليتاريا تلك المقدرة؟ على هذه الأرضية يبرر لوكاتش لنفسه، أو هكذا نعتقد، زعمه بأن البروليتاريا قادرة على توليد وعيها وإنتاجه كما تُنتج السلع التي تُغرَّب عنها، أو ربما لأنها تغرب عن تلك المنتجات، فإن هذا يشكل تحدياً لوعيها مما يبلوره”.

(عادل سماره، الاقتصاد السياسي والطبقة، الطبعة الثانية، دار فضاءات ،عمَّان 2017  ص ص 227-28).

 

لكن لوفيفر، كما يشرح ميرفيلد: “…  لم يقبل تصور لوكاتش بأن البرروليتاريا هي حالة تطابق الذات والموضوع في التاريخ  فالماركسية أو الديالكتيك عالمية بدلا من ذلك بناء على بحثه ضمن خطه الماركسي في مسألة ارتباك التباس وعي البروليتاريا، وكيف يمكن خلق وعي بروليتاري ثوري حقيقي.وفي هذا فإن التفكير الديالكتيكي يمكن أن يساعد، ، بالطبع، ولكن فقط وبشرط توفر المرونة والانفتاح والأمانة في فهم الأشكال العملية للاغتراب. فالالتباس أمر صعب تناوله وولوجه حينما تبدو الأمور وكأنه لا يوجد بهاالتباساً….يشير لوفيفر إلى شكلين من الوعي: الوعي الخاص الفردي الذي هو فردي وفي العادة برجوازي، والوعي الجمعي الذي هو اجتماعي وعام، وبأنه منذ ظهور الرأسمالية الحديثة، فإن الوعيين في حالة تضاد متزايد منفصلين في الفلسفة الحديثة الأوروبية التي تميل ألى الفصل بين المجتمع والذات، بين الجماعي  والفردي، بين الحياة العامة والخاصة. وفي زمننا الخاص يُعبِّر يعلن هذا الفصل عن نفسه كتناقض حاد وعلى شكل طاعون في الصعيد العام وتصور مشوه للفردانية والتي وصفها لوفيفر ب “الفردانية ضد الفرد”. وهنا يركز لوفيفر على ان الفردانية تلتصق بالملكية الخاصة، وهو هنا يعود بالطبع إلى ماركس حيث كتب بأن المجتمع البرجوازي يجرد الذات النفس من ذاتيتها الحقيقية تماماً. كما كتب ماركس في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية بأن: “الملكية الخاصة جعلتنا أغبياء للغاية ومحصورين في جانب واحد بحيث أن الشيء هو فقط لنا عندما نمتلكه، عندما يكون موجوداً لنا كرأسمال أو عندما نمتلكه مباشرة أي نأكله ، نشربه ،

نلبسه ، نسكنه …الخ  لذلك تم استبدال التباعد البسيط بين جميع الحواس المادية والفكرية  بالشعور “بالامتلاك” حيث قال ماركس بأنه هو الإحساس الوحيد الذي يُحسب حقًا في ظل الرأسمالية كحافز جماعي اي الرغبة في التملُّك – وتنظيم الوعي العام حول الاستحواذ  حيث يدق إسفيناً حاجزاً بين ذواتنا الذاتية وهدفنا أي البيئة ، بين وعينا الخاص ووجودنا الاجتماعي”.

 

ويواصل ميريفيلد: “…يحذر Lefebvre من وقوع الوعي العام – الجماعي فريسة للأيديولوجيين الذين يتحدثون باسم “نحن” ، للمجتمع باسم القومية والوطنية. ويرى أنه يمكن للوحدة الكاذبة والقسرية أن تنتج ما أسماه فريدريك نيتشه “عقلية القطيع ، استبداد الأغلبية” ، حيث يُوْدي الأمر بالحريات الفردية إلى القمع. ولكن من ناحية أخرى، يدرك لوفيفر أنه مع تعمق الرأسمالية وتوسعها يتم إقحام روحها الزائفة وتفاهة الفردية حيث يتوسط المال حياتنا وتقوى الأكاذيب المجردة وتصبح غريزية و طبيعية ويُنظر لها كحقائق “مقدسة” .

إن جوهر جدال لوفيفر بأن الوعي لدى البرورليتاريا لا يأتي من لدنها الذاتي كما جادل لوكاتش، بل لأنها ولهذا السبب تحديداً،يرى لوفيفر، بأنها كثيراً ما تقع فريسة الوعي الزائف أو الملتبس وهو الذي في أيامه مكَّن هتلر من الوصول للسلطة عبر البرلمان. كما يرى كاتب المقال بأن هذا ما سمح ايضا ل ترامب/و بالوصول إلى السلطة في الولايات المتحدة وكذلك ل بوريس جونسون في بريطانيا بدلا من جيرمي كوربن كما ورد أعلاه. طبعا، تجدر الإشارة إلى أن لوفيفر يرفض الفردانية المريضة لدى نيتشه.

وفي الحقيقة، فإن هذا ما قاد إلى استمرار  سقوط السلطة في أوروبا الغربية بأسرها في ايدي احزاب البرجوازية وفي بعض الأحيان في أيدي احزاب الديمقراطية الاجتماعية الوسطية كما في السويد. ويمكن للمرء القول بأن هذا نفسه ما قاد إلى فوز قوى الدين السياسي في الجزائر في بداية التسعينات وأوصل البلد إلى العشرية السوداء، والتي ايضا من آثارها بقاء جبهة التحرير الوطني في السلطة حتى وصلت البلد إلى ما وصلت إليه. هذا دون أن نتوسع في امتطاء قوى الدين السياسي  لقطاعات واسعة من الطبقات الشعبية في الوطن العربي والتورط في حرب بينية قاتلها وقتيلها غالباً من الطبقات الشعبية. 

والآن، وبعيدا عن الخلاف النظري بين لوفيفر و لوكاتش، كيف يمكن للطبقات الشعبية في الغرب خاصة والمحيط عامة تخطي الوعي الملتبس على ضوء الأزمة الوبائية الاقتصادية الجارية (E-Corona) .

هل ما يجري اليوم هو مشروع لوعي ملتبس على صعيد معولم؟ بمعنى أن تضخيم وباء كورونا يؤكد بأن وراء الأكمة ما ورائها؟ 

في بحثك عن الآراء بشأن هذا الفايروس تصاب بالارتباك لكثرة ما يُقال ويُقرأ ولشدة تناقضها مع بعضها البعض مما يوصل المرء إلى عدم اليقين وعدم التحديد وعدم اتخاذ  قرار ما أو قناعة مع.

ولكن، من بين كل هذا الركام، هناك ما يمكن التقاطه. 

هناك فايروس، نعم، ولكنه ليس أخطر من الأنفلونزا العادية كما أكدت كثير من التحقيقات. ولكن ارتبطت بهذا الفايروس مسألة هامة ولَّدت مسألة أهم: إنها المسألة الاقتصادية الاجتماعية في ثوب تنافس الكبار من جهة، وتعاطي النظم الاقتصادية الاجتماعية معها.

 ليس غريباً أن انفلات هذا الفايروس حصل بالتوازي مع الحرب التجارية المعولمة التي تقودها الرأسمالية الأمريكية وخاصة ضد الصين، والحرب التجويعية التي تقودها أيضا الولايات المتحدة ضد إيران وكذلك فنزويلا، والحروب على الجمهوريات العربية التي صار لا بد أن نراها مقدمات للأزمة الحالية وخاصة على ضوء إنشغال الإدارة الأمريكية بالتجويع والحصار ومنع الأدوية ضد هذه الدول أكثر من قلقها من الفايروس نفسه وهنا ليس دافعنا الإشارة إلى المؤامرة، وهي موجودة وإن كانت غالبا هي الجزء التنفيذي من خطة شاملة. وهذا يعني بوضوح اندغام القرار والموقف بين:

  • السلطة السياسية الأمريكية
  • والشركات ورجال المصارف
  • والكيان الصهيوني

يتمترس كثير من الاقتصاديين والخبراء خلف مقولة: بأن هذه الأزمة الاقتصادية الوبائية هي اساسا اقتصادية ثم وبائية، وبأنها ستقود إلى التقوقع الدفاعي القومي لكل بلد على نفسه. وفي هذا تركيز على المسألة القومية بالمفهوم الشوفيني الأناني جدا، والذي لا يجد ما يسنده لأن الدول الغربية الراسمالية نفسها تروج لفكرة الموت اللا مأسوف عليه لكبار السن مما جعل موتهم مثابة استثمار اقتصادي حيث تتوفر للدولة معاشاتهم التقاعدية وكلف طعامهم و مداواتهم. أي أن المسألة طبقية في كل دولة من جهة، وهي في الأساس تركيز ومواصلة وتكثيف الوعي الملتبس لدى كل أمة  كي لا تتجه باتجاه التحول الى الاشتراكية على ضوء:

  • ثبوت الاهتمام بالإنسان كأولوية في الدول التقدمية الاشتراكية وشبه الاشتراكية
  • وقرار هذه الدول تجاوز الحدود الوطنية السيادية والجغرافية لمساعدة الأمم المنكوبة أكثر.

ومن هنا تركيزنا على مسألة الوعي الملتبس التي طرحها لوفيفر بأن إرباك الوعي للطبقات الشعبية هو استثمار طبقي هائل للبرجوازية. هذا إلى جانب وجوب كشف زيف مزاعم الانتماء القومي لبرجوازيات الدول الغربية لأن وراء كل هذا مصالح طبقية لطبقة تتناقص عدديا وتتضخم مالياً، ومن هنا بلاغة البرجوازية في تعميم الوعي الملتبس بتلبيسه قناعاً قومياً.

وهذا لا يتناقض مع الواقع التآمري لما تسمى الحكومة العالمية التي تحرص على خلق كافة آليات التخلص من أكبر عدد ممكن من الجنس البشري.

وفي سياق الصراع بين الاتجاهين، تذهب الولايات المتحدة وكذلك أوروبا الغربية باتجاه الانغلاق ضمن جغرافيتها، تحت مسمى القومية، مع ما يتواكب معه من توقف الأعمال، وحشر السكان في البيوت مما عمَّق الأزمة الاقتصادية بانكماش الإنتاج، وتضخم العملة وبالطبع دفع كل دولة إلى ضخ مليارات الدولارات بين ايدي الناس لإنهاض الاقتصاد قبل أن يصل توازن القاع، وكل هذا ضمن الحدود الجغرافية لكل دولة في تحديد كبير وربما صارم لوارداتها من غيرها. هذا على أن تعود السلطة لجباية ما دفعت وأكثر لاحقاً، مع أن ما ضخته هو مدخرات من تمنحهم، لا “كصدقة” كما يُشاع ولكن كي يبقوا ويشتروا /يستهلكوا لاحقاً أكثر. 

وهذا مناقض ومثير لنوع من المفارقة، ومقصود به التناقض مع الصين التي تقود اليوم حرية المتاجرة الدولية نظرا لقدرتها الإنتاجية من جهة و لخطتها في “الحزام والحرير”. فالصين عبر تاريخها الحديث وثورتها و انتصار ثورتها والانتقال إلى الاشتراكية أعطت العامل الوطني/القومي أهمية كبيرة نجدها اليوم تنتقل إلى بعد عالمي بتحرير التجارة الدولية وارثة الإمبريالية وخاصة الأمريكية التي تتقوقع قوميا، وذاهبة إلى موقف إنساني أممي معاً بينما عالمية راس المال تتقوقع قومياً بل محلياً!

 

وهكذا، يتخندق أقوياء العالم في معسكرين متناقضين وهو ما لم يحصل منذ انتصار رأس المال على العمل في أعقاب تفكك الكتلة الإشتراكية:

  • الغرب الراسمالي في تقوقع جغرافي بمزاعم قومية
  • والطرف “الاشتراكي” الذي، ويا للهول، ينادي بحرية التجارة بدل فك الارتباط؟ وهو مطلب 

إضافة إلى جوهره الرأسمالي فهو في حالة هجوم لأنه الأقوى، فكما نعرف فك الارتباط هو ما يجب أن تتبناه الدول غير المتطورة و منهوبة الثروات لحماية اقتصادها وبالتالي الإقلاع تنموياً. وكما نعلم فإن تجربة الصين كانت القومية إحدى أهم مرتكزاتها.

أما بلدان المحيط، ففي حالة من انعدام الوزن.

وأمام هذه الفوضى المعولمة والصراع، تضطر هذه الدولة لاتخاذ قرارات وتبني سياسات مناقضة لمصالحها باعتبار ذلك تضحية من أجل هدفها أو مصلحتها الأعلى. فقد يكون من باب الغرابة أن تُصر الصين على التجارة الحرة المعولمة ليس فقط لغزارة إنتاجها حتى في لحظة الانكماش الذي يصيب مختلف اقتصادات العالم بل كذلك للمقادير الضخمة من الدولارات المتوفرة لديها مما يعيق مُضيَّها في قرار التوصل إلى بديل للدولار الأمريكي.

أو مثلا، قرار روسيا زيادة ضخ النفط بدل تقليص الضخ للحفاظ على سعر عالي للبرميل.

يبقى السؤال: إلى أي حد سوف تنجح الراسمالية في تكريس الوعي الملتبس، والذي لن يبقى أثره السلبي في تصويت الفقراء للأغنياء والمستغًلين لأباطرة المال والاستغلال، فقد يكون المطلوب هو تجنيد الطبقات الشعبية عبر التباس الوعي لمباركة والمشاركة في حروب متنوعة ضد الطرف الآخر. فالتباس الوعي هو تكرار لما وقعت فيه الطبقات الشعبية ضحايا لرأس المال.

وماذا عن الآن؟ ماذا عن عصر توفر المعلومة والثقافة؟ لماذا رغم كل هذا تنتخب الطبقات الشعبية ممثلي الأحزاب البرجوازية رغم توحش رأس المال؟ 

لو كان تنظير لوكاتش متماسكاً، لكانت الطبقات الشعبية قد أطاحت بها وعياً على الأقل. وهذا يعطي تماسكاً أكثر لتنظير لوفيفر من حيث المرونة والصدق في تناول الواقع ولكنه لم يواصل دفع أطروحته إلى نهايتها.

لدينا الزعم بأن هناك عوامل تتجاوز اطروحة لوكاتش وتجاوز التباس الوعي لدى لوفيفر بمعنى أن الوعي ملتبس فعلاً حتى حينه.

هنا يمكننا وضع الإصبع على إشكاليتين:

الأولى: تفوق الرأسمالية في تشويه الوعي الجمعي وتعميمه بحيث يلتبس على الأكثرية الشعبية التقاط خبث الثقافة البرجوازية ممثلة في الديمقراطية والحرية والمجتمع المدني …الخ، اي هيمنة إيديولوجيا البرجوازية  (غرامشي)إلى حد تمثُّل وتشرُّب الطبقات الشعبية لها وصولا إلى التباس الوعي وحتى السقوط عنصرية بيضاء تغطي انتهازية ما مفادها :أن مستوى معيشتنا الجيد هو على حساب فقر هؤلاء”.وهذا ما يطرح التحدي اليوم حيث تتخلى أنظمة هذه البلدان عن كهولها ومن ثم فقرائها!.

والثانية: وهذا ما لم يقاربه لوكاتش ولا لوفيفر وهو تقصير قوى الثورة عن تحليل الواقع وتقديم أطروحات فكرية قادرة على تقديم هيمنة بديلة لهيمنة رأس المال. وقد يرتد  هذا إلى البنى الحزبية للقوى “الثورية” بمعنى البقرطة ومضغ التنظيرات الماركسية دون هضمها وإعادة إنتاجها. وقد يكون من أهم ما يجب تبلوره أو بلورته هو فرز الطبقات الشعبية لأحزابها شريطة أن يكون الحزب /قيادة الحزب مسؤولة أمام الطبقة/برلمان الطبقة  وليس العكس. وهذا يشترط تنظير أبعد من التقليد، وإعلام شعبي أبعد وفي مواجهة الرسمي.

والسؤال: هل يمكن للقوى الثورية عالمياً استثمار فضيحة كورونا وعنصرية وطبقية الراسمالية لتفكيك ونفي الوعي الملتبس بدرجتيه في المركز والمحيط لخدمة أممية جديدة؟ وهل ستصمد لهذا الواجب أنظمة كوبا والصين وروسيا؟

كاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *