أقلام الوطن

المال سيُمرِّر/قد يمرر صفقة القرن

القَلَش المالي للحكم الذاتي

 

د. عادل سمارة

 

(ملاحظة:هذه المقالة من ملحق في كتابي: “ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة-الصادر 2013 ص ص 319-322” عن ما يسمى الربيع العربي. انشرها الآن، على ضوء احتمال تمرير أنظمة الإرهاب والتبعية والتطبيع العربية وكذلك السلطة الفلسطينية لصفقة القرن متخذة من التمويل “سيف ديمقليص”. حتى الآن المؤشرات هي نحو التمرير، هل سننقسم بين الرفض والقبض! بين تحرير منظمة التحرير من التطبيع ومن السجن في الأرض المحتلة وعودتها فيزيائيا لمحور المقاومة، أم تحويلها إلى مدماك لصفقة القرن…وسنرى.)
منذ أن بدأت ظاهرة تحويل الأموال من دول إلى منظمة التحرير بمعزل عن مصادرها دخل القلق إلى نفوس وعقول الثوريين الفلسطينيين الحقيقيين وهم ربما قِلَّة نادرة هذه الأيام أو كثرة اختارت الاختفاء عن الأضواء. أما قيادة منظمة التحرير فأخذت تُحوِّل بدورها من هذه الأموال إلى قيادات تابعة لها في الأرض المحتلة لتمكينها من تجنيد موالين وخاصة مع انتخابات البلديات 1976. يمكننا اعتبار هذه السياسة مثابة دورات تدريبية على العيش بريع من مواقف سياسية.( أذكر عام 1979 أنني التقيت مع أحد هؤلاء القادة في سجن رام الله وكانت تهمته تلقي أموال من منظمة التحرير وتصادف الإفراج عني وعنه يوم 25 أيار 1979، لكنه غادر الأرض المحتلة وفتح مشروعا له سلسلة فروع في الأردن وغيرها. والطريف أنه كان ثريا قبل تورطه في التموُّل أو اختياره لهذه “الأمانة”!)

وكانت الخطوة الأكثر خطورة في تدفق المال الأجنبي وخاصة مع بداية الانتفاضة الأولى، فهو تخريب لعذرية الانتفاضة وكسب ولاء لدول أجنبية وتقويض لنشاطات الاعتماد على الذات والاقتصاد المنزلي ومختلف أشكال الإنتاج في القطاع الزراعي والتي جميعاً من مكونات التنمية بالحماية الشعبية. ولمن يرغب في معرفة أكثر عليه مراجعة مساهمة قطاعات الإنتاج منذ 1967 وحتى اليوم وحينها سوف يفهم جيداً أهمية الاقتصاد السياسي عامة وخطورة الاقتصاد السياسي للتبعية والريع والفساد. أما أين انتهت هذه الأموال؟ فلا وجود لمؤسسات إنتاج مادي لها على الأرض! لكنها خلَّفت وراءها جيشاً من المعتمدين على عائدات غير منظورة، جيش كبار موظفي السلطة في رام الله وكبار مديري الأنجزة. وأعتقد أن جيش الأنجزة ربما القوة الثالثة بعد حماس وفتح من حيث العدد لا سيما بعد أنْ امتص الكثير من الكوادر الثورية للجبهة الشعبية، وإن لم ينخرط في حزب موحد بعد، وليس هذا مستبعداً حيث سيكون هو التيار البرتقالي ولكن في أرض البرتقال الحزين (غسان كنفاني).
(أما في غزة وتمفصلات حماس في الضفة، فالأمر ما زال على المستور، والله أعلم. ولكن حينما وضع الشيخ إسماعيل هنية عباءته على الشيخة موزة داخلني شعور بأن العباءة ستعود مليئة بالمال وعليها نجمة داوود. وحين رحل مشعل عن سوريا إلى قطر، أصبح بوسع المرء رؤية أنبوب نفط يتدفق على الإخوان في غزة، هل هذه تهمة؟ أتمنى أنْ أكون مخطئاً. ملاحظة: لم تفهم موزة وربما هنية أنه في التراث الفلسطيني حينما تستجير امرأة برجل من الاغتصاب يرمي الرجل عباءته عليها حماية لعِرضها وإعطاءها الأمان منه أيضاً! من المستجير في هذا الموقف؟
)
منذ أن بدأ التمويل الأجنبي، خالطني قلق مخيف بمعنى، إذا اعتمدنا على هذا الريع كيف سيؤول الحال؟ وأذكر أنني ناقشت هذا مع أحد موظفي المصرف الدولي وكنت حينها في UNDP بالقدس 1992 وقد جاء ليناقش وضع النظام المصرفي في الأرض المحتلة. لم يعجبني سؤاله حيث لم يكن حينها أساساً أي نظام مصرفي في الأرض المحتلة 1967 فقد أغلق الاحتلال كافة المصارف بأمر عسكري في الأشهر الأولى لاحتلال 1967، حيث استبدلها بـ 38 فرعاً للمصارف التجارية الصهيونية، ولا شك أنَّ موظف المصرف الدولي يعرف ذلك قبل لقائي حيث رأيت الخبث في عينيه الصهيونيتين وهو أمريكي طبعاً! وبالطبع لم يعجبه ردي وانصرف.
كان تخوفي: ماشي الحال، ولكن ماذا لو قرر الممولون وقف التمويل ذات يوم؟ ولماذا لا يقدمونه بشروط لاحقاً، فالكرم الشكلي في البداية كان هدفه اختراق المجتمع بتجنيد أشخاص يكونون حصان طروادة لعبور هذه الأموال، ووجدوا إسطبل طروادة ومن هؤلاء كثيرون أصبحوا رجال/نساء أعمال وسفراء وخبراء…الخ.
حينها تذكرت القلش وقلت سيكون مصيرنا كمصير الدجاج في مرحلة القلش
.( هذا المعلومة جزء من خبرتي الطويلة لثلاثين سنة حيث أنشأت مزرعة دواجن في قريتي بيت عور الفوقا 1973-2003. كانت تلك هوايتي الآتية من ثقافة والدي الفلاح بامتياز، وكانت مصدر دخل لي حيث حُرمت من العمل الأكاديمي في ظل الاحتلال المباشر وبعده. كان الخيار دوماً هو تبديل الموقف. في الانتفاضة الأولى أحرقها المستوطنون فالمستوطنة شرقي القرية بيوتها تلاصق بيوتنا، ترى هل يفهم هذا أمير قطر وآل سعود! وفي الانتفاضة الثانية أوقفتها حيث وضعني تأثير الإغلاقات بين خيار التوقف أو تصريف الإنتاج للمستوطنة بثلاثة أضعاف السعر المحلي).

والقلش جزء من العلم الزراعي في مجال تربية الطيور حيث يقوم مربي الدجاج البياض في نهاية العام الأول لإنتاج القطيع، يقوم بتصويمه لثمانية أيّام عن العلف ومنها الأيام الأربعة الأولى عن الماء، ثم يبدأ بإعطاء الدجاج 10 بالمئة من العلف بعد الأسبوع الأول ويزيد كل أسبوع عشرة بالمئة حتى يصل المقدار الطبيعي للعلف. تسمى هذه العملية القلش أو تساقط الريش وفيها يتساقط ريش الدجاج في عملية دفاع طبيعي لتوفير الطاقة للبقاء وتكون النهاية موت أعداد كبيرة، وتكوين عنقود بيض جديد للدجاج الذي تجاوز المعركة ويكتسي بالريش مجدداً ليعطي نسبة إنتاج تصل 70-80 بالمئة. والفارق بين دجاج المزارع المعتقل في أقفاص أن ليست له خيارات أخرى بينما الدجاج البلدي منفلت في الحقول بشكل طبيعي! لأنه ابن البيئة!

لست أدري متى بدأ المانحون سياسة القلش. هل هي مع وثيقة الولايات المتحدة بمناهضة “الإرهاب” أي مناهضة المقاومة، أي الخيانة. وماذا تريد هذه الدولة من العرب والمسلمين سوى أن يخونوا أنفسهم؟ هل بدأت مع قيام الكيان بوقف تحويل أموال المقاصة إلى سلطة الحكم الذاتي طبقاً لقراره السياسي؟ وهل تحويل تمويل حكومة غزة إلى قطر حيث قيادة الإخوان المسلمين وحكومة رام الله إلى السعودية حيث قيادة الوهابية هو جزء من سياسة القلش؟ أما ماذا يريد حكام قطر والسعودية منا وهم يقيمون علاقات التطبيع مع الكيان؟ وآخر تصريحات حمد بن جاسم ضم الكيان لجامعة العربية؟ أما السعودية فقد تجعل أول الحرمين هو الأقصى تحت الاحتلال ليكون التآخي بينه وبين إعادة بناء الهيكل بدل هدم الأقصى. أليس هذا تعايش أديان! إذن ما الثمن غير شطب حق العودة! هل توكيل الغرب عملية التمويل لدول عربية نتاج الأزمة الاقتصادية المالية في الغرب الرأسمالي هو تعريب التمويل والقلش؟ هذا الاحتمال الجانبي. فالأساس هو دع العرب يمولوا مشروع إسقاط حق العودة.

كان القلق من وصول مرحلة القلش يصاحبني دوماً حتى حين أحاول التفكير في هذا التمويل بأنه حسن النية. ربما مقصد هذا الغرب تركيزه على دفع ريع لبلدان أخرى من جهة، وتحويل الفاتورة على بلدان الريع النفطي التي بوسعه توجيهها كما يريد، وهي لا شك غاية في الطاعة.

شبح القلش تمارسه سلطة الحكم الذاتي منذ سنين: هذا الشهر لا توجد أموال لتغطية الرواتب، السلطة في أزمة مالية، ستدفع السلطة ربع الراتب، السلطة مدينة…الخ. ثم تظهر الرواتب ويكون ذلك بعد حلقة من المفاوضات أو صفقات سياسية سرية مغطاة تلبس اللباس “التقليدي جدا المسمى شرعياً” (مع الاعتذار والاحترام لخيار السيدات لابسات الشرعي) فلا تبين لنا سوى عيون الصفقات وأظافرها. وماذا نعلم بعد ذلك عن بقية الإنسان!
ويغدو القلش سياسة في منظمات الأنجزة. فكلما قل التمويل تضطر هذه المنظمات للتفريط بمن استخدمتهم لفترة ليصبحوا من فلول جيش العمل الاحتياطي وتكون هذه القرارات الصعبة بعد توقيع كل تعهدات عدم تمويل “الإرهاب” ومع ذلك يقلّ التمويل، إنه القلش. نقول فلول لأن للجيش عادة خطة.

أما في الأكاديميا فتلافياً لوصول مرحلة القلش أو حتى انتهائه فيستميت هؤلاء في تدريس مساقات العولمة، والمابعديات، وتسامح فوكو وديريدا، واعتذاريات تشومسكي، وكتابات بندكت اندرسون عن القومية المتخيَّلة، وتعميق الثقافة القطرية والتكفير بالسرديات…الخ. ومن جانبهم يلجأ مثقفو التسوية إلى كتابات غزيرة تتخصص في نقد كل ما هو قومي او اشتراكي، وهي كتابات حين تقلبها على وجهها الآخر تجدها مديحا تكسُّبياً لأنظمة الريع النفطي، بمعنى حين تقرأ نقداً للقمع والفساد في أنظمة شهداء الأمة صدام والقذافي وعبد الناصر والآن سوريا ولا تجد كلمة واحدة عن أنظمة الريع النفطي فعليك أنْ تقلب هذا التابوت على وجهه الآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *