أقلام الوطن

ترامب ثور يدوس أمعاء آدم سميث: هل آن أوان كسر ظلفه؟

د. عادل سمارة

بعيداً عن أماني مؤسس الاقتصاد السياسي البرجوازي آدم سميث تطورت هيمنة الشركات الكبرى على الاقتصاد الأمريكي حيث تم  انتقال الرأسمالية من المنافسة التي هي أحد أهم اسس نظريات آدم سميث إلى الراسمالية الاحتكارية.

وهو الانتقال الذي رآه ماركس باكرا بل ووصل في تحليله إلى عولمة الاقتصاد الراسمالي. والعولمة في مستوى منها هي درجة قصوى من تركز راس المال مالاً وإدارة وسيطرة الشركات متعدية الجنسية ليس من حيث حجمها وحسب بل من حيث دورها وحيازاتها وأرباحها. أي ان الفكر المحفز لآدم سميث جرى تجاوزه أو تدميره كما فجر السيل العَرِم سد مارب في اليمن القديم.

في عام 2010، مثلًا، شكلت ثروة 500 شركة في الولايات المتحدة 73.5% من كل الناتج الوطني الإجمالي. وتجني أكبر 2000 شركة في العالم إيراداتٍ بلغت 32 تريليون دولار، وأرباحًا بلغت 2.4 تريليون دولار، كما يشير آلان وودز. كما أن إيرادات آبل وأمازون وجوجل مجتمعات في 2017 فاقت إيرادات دول الخليج مجتمعة.

توقع ماركس كذلك تطورًا معينًا للرأسمالية يقوم على تركيز شديد لرأس المال وتراكم هائل للثروة، يصاحبه فائض إنتاج وبطالة ولا مساواة، إضافة إلى فائض بؤس للملايين من البشر. ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة أوكسفام في بداية هذا العام ، فإن 82% من الثروة المتولدة في العام الماضي ذهبت إلى أغنى 1% من سكان العالم، في حين أن 3.7 مليار شخص، يشكلون نصف سكان العالم الأكثر فقرًا، لم يشهدوا أي زيادة في ثرواتهم. ويحتاج المدير التنفيذي لإحدى أكبر خمس شركات أزياء عالمية لأربعة أيام فقط ليجني من المال ما تجنيه عاملة ملابس بنغلاديشية طيلة حياتها. ويشير التقرير نفسه إلى أنه في الولايات المتحدة، يجني المدير التنفيذي في ما يفوق اليوم الواحد بقليل ما يجنيه العامل العادي في سنة كاملة. وتبلغ تكلفة رفع أجور 2.5 مليون عاملة ملابس فيتنامية إلى الحد الأدنى للمعيشة 2.2 مليار دولار، هذا المبلغ يساوي ثلث المبلغ الذي تلقاه الشركاء في أكبر خمس شركات في قطاع الملابس عام 2016

وعلى خطى ماركس بادر رودلف هلفريدنغ ومن ثم فلاديمير لينين بتشخيص مسار الراسمالية من حيث تركز راس المال وتوجهه الاحتكاري واندغام رأس المال الصناعي والبنكي كتأسيس للمولنة الحالية .

ومن حينها حتى اليوم ينقسم اقتصاديو البرجوازية إلى فريق يحن إلى رأسمالية المنافسة وفريق يدافع عن الراسمالية الاحتكارية. حنين قديم أقرب إلى السلفية في محاولته العودة إلى الوراء، وهو اشبه بنقد هوبسن للإمبريالية 1895 معترضا على ما لا راد له سوى الثورة الاشتراكية.

والطريف أن  قلة ترى أن الراسمالية قد انحرفت أو قادها تيار تحريفي عن أفكار أبيها المؤسس آدم سميث، بينما لم تتوقف فذلكات كثيرين عن تحريف الماركسية!

كان أعنف طلاق لأفكار الأب المؤسس قد تجلى في أزمة 1929 الدورية الكبرى، حيث كان الاقتصاد منفلتا من التضبيط الحكومي، تم تضخم وتشبع سوق السندات بكميات هائلة من المال المقترض الى حد يمكن وصفه بان هناك ماكينة توليد مال لا حدود لها، وحقا لا حدود لطباعة الورق، وإن كان ورقا خالصاً.

كان الرئيس الامريكي حينها هيوربرت هوفر، الذي طرب للسوق الحرة ولقوة الأعمال وصعودها فقال: ” …قريبا وبمشيئة الله نحن على موعد مع يوم سيقتلع فيه الفقر من هذه الأمة” .

وهذا متطابق مع ما صرح به احد اهم الاقتصاديين الأمريكيين حينها إيرفنج فيشر بقوله: “… ان مشكلة  دورة الاعمال قد تم حلها  وبان البلد قد استقر على قمة شامخة من الازدهار الذي لا نهاية له”

ولكن في اكتوبر 1929  اي بعد بضعة اشهر  من تصريح فيشر  انهار النظام المالي تماما.تبخرت الحصون المالية  بين عشية وضحاها . ولعل أقل ما لفت نظر الاقتصاديين وحتى رجال السياسة هو من جاع ومن مات من الطبقات الشعبية جراء تلك الأزمة. ومن حينها وحتى اليوم، يُنظر عادة إلى دينامية الانهيار الاقتصادي باتجاه القاع، ودينامية الشفاء الاقتصادي ايضا، دون النظر للناس. هذا جوهر الرأسمالية الوريث الأكثر توحشا للملكية الخاصة.

الى ان كانت الحرب الامبريالية الثانية ووصفات جون مينارد كينز بإعادة دور الدولة حتى توازن الاقتصاد. وصفوا الرجل بأنه الطبيب الذي عالج المريض الاقتصادي على راي روبرت هيلوبرنر في كتابه رواد الفكر الاقتصادي. رأى ان لا بد للدولة من دور في الاقتصاد من أجل العمالة والتي بدورها توسع السوق بالاستهلاك ومن ثم يتم تشغيل العجلة الاقتصادية . على تنظيرات كينز دخلت الرأسمالية في الغرب مرحلة دولة الرفاء والازدهار حتى منتصف سيتنات القرن العشرين. لكن أمريكا خاصة وفي حكم الجنرال دوايت أيزنهاور قررت السبق في المجال التسليحي حيث خرجت منتصرة وقوية من الحرب الإمبريالية الثانية واضعة بريطانيا تحت إمرتها. ذلك لأنها كانت تجهز  نفسها للدور الوريث الإمبريالي مخالفة كل من سميث وهوبسن معاً.

اقام أيزنهاور المجمع الصناعي العسكري كضرورة لدولة تجهز نفسها للسيطرة بالقوة على العالم من جهة ومن جهة ثانية توقعاً من إدارته  احتمال بروز دول تنافس بالإنتاج المدني بينما عسكريا لا بد أن يكون لأمريكا قصب السبق للمنافسة والحرب معاً ومن أجل تثبيت السيطرة على السوق العالمية ولو بالقوة.

الحرب كما فوضى الإنتاج هي قرينة لراس المال، لذا دأبت الرأسمالية على صناعة الحرب كعلاج للاقتصاد الرأسمالي . علاج سواء ضد بعضها أو ضد القطب الاشتراكي/ أو اليوم ضد القطبيات المتعددة.

هناك اجماع بأن لجوء الامبريالية للحرب مثابة مدخل للتخلص من ازمة داخلية. وقد يكون هذا هو الاساس في مقولة الفوضى الخلاقة.  بغض النظر عن كون الحرب على سوريا مثابة حرب بالانابة بعكس التي كانت ضد العراق فكيف تقرا نظريا؟

صحيح ان سنوات الحرب لا تشهد نموا اقتصاديا ولكنها تقيد انفلات راس المال الكبير  حيث تفرض الدولة ضرائب اعلى على الشركات الكبيرة لتمويل الحرب. ويبدو أن القاعدة الضريبية تستقيم أكثر خلال الحرب. وبدونها يقع العبىء الضريبي على الطبقات الشعبية  وحتى على الوسطى. وتفرض رقابة على الأجور. وبالطبع تطبع الدولة نقودا لتمويل الحرب وهذا يخلق تضخما ياكل من اجور العمال ولكن في الوقت نفسه يتم تشغيل عدد اكبر من قوة العمل وتستديم وظائفهم لان ماكينة الحرب تحتاج شغلهم عسكريا ومدنيا. ويترتب على هذا تحسن في القوة الشرائية للناس. ورغم ان الحكومة تقيد الاجور الا انها تخلق درجة من التساوي   للجميع ، تساوي نسبي نظراً لظروف الحرب  لا اكثر. ويتم تشغيل العمال غير المهرة بنسبة اعلى من المهرة. وفي النهاية يكون قد تم سحب بعض ما لدى الأغنياء لصالح الفقراء إلى ان تجتاز الدولة الحرب فتعيد للراسماليين أكثر مما دفعوا عبر توفر أسواق جديدة/ وتخفيض أو الإعفاء الضريبي. فالحرب إذن مشروع مشترك بين الإدارة السياسية والطبقة الراسمالية طبقة الشركات.

لقد استغل المركز الراسمالي الغربي وخاصة امريكا تفكك المعسكر الاشتراكي كي يُطلق يد الاحتكارات الكبرى بتركيز السياسات اللبرالية الجديدة، والخصخصة او عموما عدم التضبيط De-regulation التي أسست لها بريطانيا تاتشر وأمريكا ريجان منذ سبعينات القرن العشرين، في شكل من تكرار ما حصل عشية أزمة 1929 . وهي السياسات التي نجم عنها تراكم سيولات مالية هائلة، لم يتم استثمارها في قطاعات الإنتاج بل تم اللجوء إلى المضاربات وتوليد المال من المال.

بالمقابل، رحلت كثير من الشركات، وخاصة الأمريكية إلى الصين التي أصبحت ورشة العالم الكبرى، كما هي تركيا ورشة أوروبا الغربية(تركيا تواجه اليوم انسحاب رؤوس الأموال الأوروبية) . أي انتقل موقع الإنتاج من الغرب إلى الشرق. ولا داع هنا للتفصيل بأن ما حصل هو عجز القطاع الحامل للاقتصاد الأمريكي، اي قطاع الخدمات العقارية حيث عجز الملايين عن تسديد أقساط الديون، فكان انهيار عام 2008.

أحد أوجه الاختلاف بين ما بعد 1929 وما بعد 2008، أن الحرب إثر الأزمة الأولى كانت دخول امريكي فعلي في الحرب، ولو بعد اشتعالها. أما عشية الأزمة الثانية فقد سقطت أمريكا في تكرار الأسلوب القديم للحرب باحتلال العراق، وكان الدرس المؤلم الذي غير في النهج العدواني الأمريكي، وهو راسمالي بامتياز. لذا، تم  اختراع شكلا آخر من الحرب اي الحرب بالإنابة، أقصد حرب السبع العجاف -حتى حينه- للربيع العربي.

تنويعات الحروب:

 

ارتكز كتابي “ثورة مضادة إرهاصات أم ثورة” على  حقيقة أن الثورة المضادة موجودة سلفا في الوطن العربي خاصة، وهو سمح لها بالانقلاب على الحراك الشعبي في بعض الأقطار العربية وتحويله إلى ثورة مضادة. وليس هنا مجال التفصيل أو التأكيد أن حراكا حصل في تونس ومصر، بينما في سوريا وليبيا كان هناك تحريكا خارجيا.

مثل العدوان الأمريكي ضد العراق وأفغانستان ويوغسلافيا مرحلة وسطى تمثلت في التدخل المباشر ثم التدخل بالنيابة وصولا إلى الإنابة التامة والتي تمثلت في العدوان على سوريا بجيوش حقيقية هائلة من الإرهابيين أتباع الدين السياسي بينما بقي دور أمريكا والغرب هو بيع الأسلحة والخدمات اللوجستية ودور حكام النفط العرب دفع ثمن المبيعات الأمريكية والأوروبية.

كانت الشركات الكبرى، التسليحية والمدنية والخدماتية هي المحرك الحقيقي لتلك العدوانات ليس للبيع فقط وتمهيد الأسواق  بل كذلك لتجربة درجة فتك الأسلحة حيث ارسلت خبراء مع الدبابات الأمريكية في العدوان على العراق 1991 ليراقبوا فتك الأسلحة بشكل مباشر. وهي الدبابات التي أتت بالحكومات العراقية منذ 2003 وحتى اليوم! مدهش هذا لا شك!

بعد المرحلة الوسطى او المختلطة من حيث نوعي الحرب، كان ربيع السبع العجاف هو الشكل الذي استقرت عليه امريكا، اي عدم التدخل بجيشها نفسه مكتفية بالإرهابيين وبعض العدوانات الصهيونية ضد سوريا. لكن هذا الاستنتاج فقط حتى حينه. ذلك لأن قرار امريكا هو بيد الدولة العميقة المكونة من مجموعة شرائح طبقية راسمالية بينها تحالفات وتجاذبات اتضحت خلال العام الأول لرئاسة ترامب.فيه تشكل منظومة الحكم /السلطة وهي:

النخبة السياسية في السلطة، نخبة المجمع التسليحي، نخبة التصنيع المدني نخبة المخابرات والإعلام ونخبة الدين السياسي .

إن وصول ترامب إلى السلطة هو الانتقال الرأسمالي في امريكا من اندغام رأس المال الصناعي والمالي/البنكي إلى  اختصار/اندغام  النخبة الشركاتية في الإدارة السياسية واضعاً قياد السلطة الراسمالية بيد شركة كبرى هي الولايات المتحدة في شخص ينطق باسم الجناح الكثر تشدداً بين مكونات الدولة العميقة ويتصرف كمدير شركة لا راس دولة عظمى، مما يعني أعلى مراحل دكتاتورية البرجوازية.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو:

قد لا يكون السؤال الأهم هل سوف تستمر الإدارة الحالية في الحرب بل العدوان بالإنابة، أم ستعود، إذا اضطرت، للعدوان بالعسكر الأمريكي المباشر؟ ذلك لأن إحدى سمات الرأسمالية في تجديد نفسها دون تغيير جوهرها. وجوهرها الوحشي هي الحرب مما يجعل السؤال الأكبر متى وكيف ستقوم بها!

وإذا كانت حروب رأس المال من الميركنتيلي/التجاري، فالاستعمار فامبريالي فالعولمي هي من أجل الربح اللامحدود، وهي كذلك، رغم أنف من يكذبون ويجهلون بزعم أولوية العوامل السياسية والدينية والنفسية كأهداف او مسببات للحرب. إنه الاقتصاد إذن كمصطلح لتخفيف وحشية الجوهر الذي هو مركب من استغلال، نهب، تقشيط، تسويق وفي النهاية ربح لا محدود.

بعد عام على حكم ترامب وتطويعه لجوانب من الدولة العميقة باشر حرب اقتصاد عالمية، حرب الشركات عبر تفجير الاتفاق النووي مع إيران وبصلف لم يقم على مبرررات معقولة تجاه بنية الاتفاق نفسه.

وامريكا معتادة على التنكر لاتفاقاتها. كان عبد الناصر قد أكد لسفير بلاده في امريكا ان الأخيرة ستتخلى عن اتفاق تمويل السد العالي، بينمااصر السفير على العكس : ” وفي يوم 18 تموز/ يوليو 1956، وصل أحمد حسين إلى مقر وزارة الخارجية المصرية ليجتمع بدالاس. ولم تمض دقيقة واحدة على دخوله مكتب الوزير حتى كان لنكولن هوايت، المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية، يعلن انسحاب بلاده من مشروع تمويل السد العالي. “

لكن جنون الربح لدى هذه الإدارة لا يعني جنون القرار دائماً. فحين اضطرت الصين لرفع عصا الرد على عدوان الشركات الأمريكية  توصلت امريكا إلى تسوية مباشرة مع الصين،متبعة سياسة فرق تسد بإبقاء حربها الشركاتي ضد أوروبا الغربية وروسيا   فانزاح كلها بشكل خاص على ظهر القارة العجوز  التي اعطاها ترامب عدة أشهر كي “تسلَّ ثيابها من ثياب إيران فتنسلِ-امرىء القيس” أي تقوم بطلاق ناعم ما امكن لأن المهم ان تقوم بذلك. لكن أوروبا هي بين مستسلم وبين متردد وبين رافض. فالسلطات وخاصة في المانيا هي الأقرب لرفض القرار الأمريكي خاصة لعلاقتها النفطية والغازية بروسيا إضافة إلى انها رافعة اقتصاد الاتحاد الأوروبي.

مواصلة امريكا ضغطها على الشركات الأوروبية لم يتضح بعد من هي فئة الشركات المتضررة من القرار الأمريكي، وتحديداً، هل الشركات الأوروبية التي بادرت الى السوق الإيرانية بعد توقيع الاتفاق هي الأقل شراكة في رأس المال مع شركات أمريكية؟

إلغاء الاتفاق امريكيا سوف يصيب إيران بأضرار ولو مؤقتة إلى حين تموضعها في علاقات أوسع مع الصين وروسيا والهند وجميعها ترفض القرار الأمريكي وقد يقود هذا إيران إلى مزيد من العلاقات شرقاً بما يحويه من وجود سياسات اقتصادية في روسيا والصين لم تغادر التاثير الاشتراكي تماماً وخاصة مع استمرار الرئيس الصيني الحالي الذي أعطى جرعة فيتامين للنهج الماركسي.

من جهة أخرى، ماذا تقول التيارات الشعبية في الاتحاد الأوروبي التي هي اساساً ضد الاتحاد باحثة عن سياسات قومية. وهذه، وإن كان الكثير منها ضد الراسمالية، لكنها لن تكون داعمة لموقف أمريكا  ضد الشركات المحلية.

على العموم، فإن العدوان الأمريكي ليس ضد إيران وحدها، بل هو ضد أية قطبية عالمية أو إقليمية، وهذا يعني مزيدا من التعاون الاقتصادي بين إيران وروسيا والصين ولا سيما فيما يخص التقويض التدريجي للدولار لصالح اليوان وليس حتى لصالح اليورو.

راس امريكا الشركاتي كما يبدو عازم على الحرب الاقتصادية وقد يقوم بحرب عسكرية سواء بالإنابة أو مباشرة خاصة وأن ترامب قد تمكن كما يبدو من إما لجم أو الانسجام مع الدولة العميقة.

 

كنعان الإلكترونية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *