أقلام الوطن

معركة عفرين لم تنتهِ بعد

د. إبراهيم علوش

تبقى الحقيقة الموضوعية التي صنعتها تطورات الأيام الفائتة، بالرغم من مرارة الاحتلال التركي البغيض لعفرين، أن أدوات حكومة الولايات المتحدة في سورية تعرضت لهزيمة مروعة مزدوجة، في الغوطة الشرقية، حيث دُحرت أدواتُها التكفيرية، وفي عفرين، حيث تقهقرت أدواتُها الانفصالية، وقد تقلصت مع هذه الهزيمة قدرة الولايات المتحدة على المناورة في الميدان السوري، وتقلص معها وزن الولايات المتحدة على أي طاولة مفاوضات تتعلق بسورية، في فيينا أو جنيف أو أي مكانٍ آخر، وتالياً وزنها في الإقليم ككل.

التهديدات الغربية بالتدخل العسكري المباشر في سورية، بذرائع “كيماوية” أو “إنسانية” أو “خنفشارية”، لا يهم، جاءت محاولةً لاستباق مثل هذه النتيجة، لكن مدى مصداقية تلك التهديدات وجديتها هو الذي يحدد إن كانت ستزيد أو تقلل من وزن الولايات المتحدة في سورية والإقليم، لا إزاء أعدائها مثل روسيا ومحور المقاومة فحسب، بل عند حلفائها وأدواتها، وعلى رأسهم الميليشيات الكردية في عفرين، والعصابات الإرهابية في الغوطة الشرقية، الذين بات فحوى خطابها في الحالتين مؤخراً مرثيةً رتيبةً عنوانها: “لماذا تركتَ الحمار وحيداً؟!”.

ما يسمى “وحدات الحماية الكردية” التي اختارت ربط نفسها بالولايات المتحدة من المنطقي أن تكون الآن غاضبة من ربيبتها الأمريكية لأنها لم تؤّمن لها حماية جوية لعفرين، لأن تلك “الوحدات” تعمل تحت السقف الأمريكي، لا الروسي، حتى “تغضب من روسيا” على عدم تأمين حماية جوية لعفرين! والولايات المتحدة باتت واقعة بين رحى حليفين ضروريين لتنفيذ استراتيجيتها وتوسيع حقل خياراتها في سورية والإقليم، أحدهما تركي “ناتوي” والآخر كردي “ميليشياوي”، وأحدهما دولة تمثل ركناً أساسياً في منظومة “الناتو”، والآخر لاعب من غير الدول يمثل ركناً أساسياً في مشروع تفكيك جغرافيا المنطقة وهويتها، ولعل أحد عواقب ما يسمى “عملية غصن الزيتون” سيكون احتمالية تفاقم الخلافات ما بين الإدارة الأمريكية من جهة، وكلٍ من تركيا والأكراد من جهةٍ أخرى، وما بين الأتراك والأكراد على صعيدٍ آخر، وهو ما يحدث فعلاً، لا سيما مع اقتراب الأتراك، وأدواتهم التكفيرية التي استخدموها “علفاً للمدافع”، من منبج وغيرها.

فإما أن تتخلى الولايات المتحدة تماماً عن الميليشيات الكردية للأتراك، على الأقل غرب الفرات، وهو ما يضرب إسفيناً بينها وبينهم، وإما أن تتخذ الولايات المتحدة موقفاً حدياً من الغزو التركي، وهو ما يضرب إسفيناً بينها وبين الأتراك، وفي الحالتين عليها أن تفكر كيف تخرج بأقل الخسائر فيما يستعيد الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة الغوطة الشرقية ويعزز مواقعه في ريف إدلب الجنوبي والأرياف المحيطة، مما يضع الولايات المتحدة تحت خطر انفجار تناقضات “ثانوية” (من منظورها) بين حلفائها، وبينها وبينهم، فيما يعزز أعداؤها الأساسيون، وعلى رأسهم روسيا، مواقعهم، ويتدهور موقعها هي في سورية.

الميليشيات الكردية، من جهتها، لعبت أوراقها بغباء استراتيجي منقطع النظير. فبدلاً من أن تسلم عفرين للدولة السورية صاحبة السيادة عليها، لنزع الذريعة من أيدي الأتراك لمهاجمتها، ظلت تكابر حتى انقض عليها الأتراك والتكفيريون وفتكوا فيها بالطائرات والمدفعية على مرأى من حلفائها الغربيين، وعندما قررت أن الوقت حان للانسحاب من عفرين سلمتها للجيش التركي تسليماً من ناحية عملية، ربما بضغط أمريكي.

وربما تكون حِسبَة الميليشيات الكردية أن الجيش التركي في عفرين يظل في النهاية قوة محتلة من منظور سوري وكردي وإيراني ورسمي عربي ودولي وغربي، أما الجيش العربي السوري فلا، وبالتالي فإن إخراج الأتراك، أو شن عمليات ضدهم، سيكون أقل صعوبةً بكثير من شن حرب على الدولة السورية باسم عفرين، لكن مثل تلك الحسبة، إن كانت سبب العناد الأرعن في رفض تسليم عفرين لصاحبها الجيش العربي السوري، فإنها ستضع الميليشيات الكردية في موقعٍ حليفٍ موضوعياً للدولة السورية بمقدار ما تنخرط في مواجهة مع الاحتلال التركي والعصابات التي اصطحبها معه، لأن الأمريكيين والغربيين الذين سكتوا عن دوس الأتراك لأعز حلفائهم في عفرين اليوم، لن ينتزعوها بالقوة من الأتراك ليسلموها على طبق من ذهب للأكراد غداً، إذ أن تهديدهم ووعيدهم ظل موجهاً بعيداً عن الأتراك نحو السعي لحماية بؤر الإرهاب التكفيري في الغوطة الشرقية.

الدول الغربية، في الواقع، معنية بتوجيه الميليشيات الكردية شرقاً وجنوباً ضد سورية والعراق، لا ضد الجيش التركي غرباً، والتخلي عن الجيوب الكردية غرب الفرات ثمنٌ قليلٌ مقابل إرضاء تركيا على حساب الأكراد. فشرق الفرات وجنوبه تقع حقول النفط، والحد الذي يحاول الأمريكيون بناءه بين سورية والعراق من التنف عند نقطة الحدود السورية-الأردنية-العراقية إلى البوكمال شرقاً إلى القامشلي شمالاً، مروراً بمحمية “داعش” الممتدة طولياً في ريف دير الزور المحاذي للحدود مع العراق وصولاً لأجزاء من ريف الحسكة الجنوبي وهي “المحمية” التي يحاول الأمريكيون الحفاظ عليها للغرض نفسه وهو فصل سورية عن العراق، وكذلك محمية “داعش” الأخرى المرسومة كخط عرض في ريف حمص الشرقي بين البوكمال شرقاً وتدمر غرباً ودير الزور شمالاً، في الحالتين، كخط طول، وكخط عرض، يشكلان “حاجزاً اعتراضياً” تكفيرياً بين سورية والعراق، فيما تشكل الميليشيات الكردية والقواعد الأمريكية “حاجزاً اعتراضياً” آخر بين سورية والعراق من جهة الشمال، بالمقابل، لا حاجة للأمريكيين من حاجز اعتراضي كردي بين سورية وتركيا في الوقت الحالي، ما دامت البؤر التكفيرية في محافظة إدلب والأرياف المجاورة تخدم هدف الطرف الأمريكي-الصهيوني في “زعزعة استقرار سورية وتفكيكها”.

الأتراك إذا، بالرغم من تصاعد التوترات مع الغرب بسبب ما يسمى “عملية غصن الزيتون”، لا يلعبون تماماً خارج إطار الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في سورية، إلا إذا دفعتهم الأطماع العثمانية المبيته للتقدم غرب الفرات، ولأماكن تواجد القواعد الأمريكية، وباستثناء أن ما يقوم به الأتراك يضعف حليفاً أمريكياً آخر هو المليشيات الكردية، وباستثناء أن الأتراك يحاولون زيادة دورهم في سورية على حساب الغرب والأنظمة الرجعية العربية، بذريعة المليشيات الكردية.

لكن الأتراك ما داموا في حيز الأرياف الشمالية المحاذية لـ”حدودهم” (التي تتشكل من أراضٍ عربية وكردية محتلة أساساً)، بعيداً عن مناطق سيطرة المليشيات الكردية غرب الفرات، فإنهم لن يستثيروا حرباً مباشرة أو بالوكالة مع الغرب، ومع ذلك، فإن للغرب مصلحة باحتوائهم، ومنعهم من التفكير بالتمدد أكثر مما يجب، من خلال حرب عصابات سنرى متى ستطلقها المليشيات الكردية ضدهم في سورية وبأي حدة، لكنهم في الحالتين سيكونون قد وقعوا في أتون الميدان السوري.

انشغال الدولة العربية السورية وحلفائها بعشرات نقاط الاشتباك والجبهات، ومنها الجبهة مع العدو الصهيوني، جنوباً وجواً، عن فتح حرب تحرير الأراضي السورية المحتلة تركياً، ومنها عفرين، لا يعني بتاتاً الموافقة على احتلال عفرين أو أي بقعة عربية سورية، أو حتى احتلال الجولان وفلسطين وشبعا، والإسكندرون.

وقد أرسلت سورية قوات شعبية للدفاع عن عفرين، واتخذت موقفاً لا لبس فيه من الاحتلال التركي في ريف حلب وغيره قبل عفرين، لكن المليشيات الكردية أرادت من الدولة السورية أن تتحرك في عفرين بناءً على أجندتها: نريد غطاءً جوياً! نريد منكم أن تفعلوا كذا وكذا! هنا وهناك! ولا نريد أن نعترف بسيادة الدولة السورية على عفرين أو غيرها! وهذا طبعاً غير معقول ولا مقبول، فالدولة العربية السورية وحلفاؤها هم الذين يحددون إيقاع المعركة، لا اصحاب الأجندات الصغيرة أو الانفصالية الذين يثيرون قضية السيادة الوطنية بشكلٍ انتقائي ومجتزأ كيفما يحلو لهم.

أما من يشكك بأن سورية تعرف متى وكيف تخوض معاركها، ولا تضيع حقها، فنذكره، من بين عشرات الأشياء، بإسقاط الأف 16 الصهيونية مؤخراً، كما نذكره بإسقاط طائرة الأف 4 التركية في 22 حزيران 2012، وهي رسالة للأمريكيين وللفرنسيين ولغيرهم لو حاولوا أن يلعبوا بالنار، وهم أعجز من أن يخوضوا حرباً أو يمارسوا احتلالاً، لكن إسقاط الطائرات الحربية، والصواريخ المعتدية، لعبة سورية أيضاً، إن ظنوا أن القيام بـ”ضربة خاطفة” يمكن أن يقلب المعادلات.

باختصار، من يهذر بأن سورية “ضحت بعفرين مقابل الغوطة الشرقية”، و”أن ثمة صفقة في الأمر”، فليعرف بأن عفرين ستعود لحضن الدولة السورية كغيرها، وبأن سورية التي يزأر أسدها في الغوطة الشرقية بأن كل متر يتم التقدم فيه في الغوطة يغيّر الخريطة السياسية للعالم تعرف جيداً خريطة عفرين، وإعزاز وجرابلس ودابق والباب، أي أن كل متر تحتله تركيا من الأرض السورية سوف يعود، ضمن أجندة الدولة السورية وحساباتها، ومعركة عفرين لم تنتهِ بعد.

21 آذار 2018

 

“تشرين”

د. إبراهيم علوش

د. إبراهيم ناجي علوش - مواطن عربي مؤمن بالنهج القومي العربي وبتحرير فلسطين من النهر إلى البحر ورفض كافة أشكال التسوية مع العدو الصهيوني - استاذ اقتصاد، حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة ولاية أوكلاهوما الأمريكية، - المنسق العام للائحة القومي العربي، - الرئيس السابق لجمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية قبل وضع وزارة الثقافة يدها عليها بعد حل هيئتها الإدارية المنتخبة - كاتب ومؤلف وله عشرة عناوين منشورة حتى الآن منها كتاب "مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي"، وكتاب "الرسالة السياسية لهوليود: تفكيك الفيلم الأمريكي"، و"من فكرنا القومي الجذري"، و"في التطبيع وقضاياه الخلافية"، وغيرها. - له مئات المقالات والأوراق في مواضيع شتى سياسية واقتصادية وثقافية، وعدد من الإبحاث الأكاديمية في مجال علم الاقتصاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *