أقلام الوطن

ردا على السيسى .. مصر ليست صغيرة

محمد سيف الدولة

“لا يمكن لمصر ان تفعل شيئا لأنها صغيرة وضعيفة وبلا تأثير.”

كان هذا هو مضمون الرسالة التى أراد السيد عبد الفتاح السيسى رئيس الدولة المصرية، أن يوصلها الى “كل من يعنيه الأمر” بشأن القرار الأمريكى بنقل السفارة الى القدس، وما تلاه من مذابح اسرائيلية للفلسطينيين على حدود قطاع غزة.

وقد قال بالنص:

((قرار نقل السفارة سيؤدى الى شئ من عدم الرضا والاستقرار..

بنتحرك فى حدود قدرتنا ..

وحطوا خط تحت حدود قدرتنا..

وعلى الفلسطينيين ان يحتجوا بطرق لا تؤدى الى سقوط ضحايا..

وعلى الإسرائيليين ان يكونوا اكثر حرصا فى عدم اسقاط ضحايا..

ولا يمكن لمصر ان تفعل شيئا .. علينا ان نعمل ونكبر لكى يكون لنا تأثير فى المستقبل ..))

انتهى الاقتباس و فيديو الكلمة فى نهاية المقال.*

***

1)  ان مصر ليست دولة صغيرة ولا ضعيفة ولا قليلة الحيلة ولا محدودة التأثير، بل هى قادرة لو ارادت ان تعيد تشكيل موازين القوى فى المنطقة، وأن تصحح الاختلال الرهيب فيها، وان توقف العربدة الاسرائيلية، وان تقلص من النفوذ الامريكى. وان تكون الطرف الاكثر تأثيرا وفاعلية فى كل الملفات الرئيسية فى الاقليم بما فيها ملف الاحتلال الصهيونى لفلسطين.

ولكن مصر الرسمية والعميقة خائفة منذ 40 عاما، وازداد خوفها فى السنوات القليلة الماضية، وهى لا تريد ان تتحرر من التبعية ومن القيود التى كبلتها فى اتفاقيات كامب ديفيد، ولا اقصد هنا فقط القيود العسكرية على قواتنا المسلحة فى سيناء الواردة فى المادة الرابعة من المعاهدة، وانما ايضا المادة السادسة التى قيدت فقراتها الثانية والرابعة والخامسة، سياسات مصر وقراراتها فيما لو تعرضت فلسطين او اى من الاقطار العربية لعدوان اسرائيلى، اذا نصت هذه الفقرات على ما يلى:

  • يتعهد الطرفان بأن ينفذا بحسن نية التزاماتهما الناشئة عن هذه المعاهدة بصرف النظر عن أي فعل أو امتناع عن فعل من جانب طرف آخر وبشكل مستقل عن أية وثيقة خارج هذه المعاهدة.(الفقرة الثانية)
  • يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أي التزامات تتعارض مع هذه المعاهدة.(الفقرة الرابعة)
  • مع مراعاة المادة (103) من ميثاق الأمم المتحدة يقر الطرفان بأنه في حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتهما الأخرى، فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة تكون ملزمة ونافذة.(الفقرة الخامسة)

***

2)  ولكن حتى “مبارك” لم تمنعه كل هذه القيود من ان يسحب السفير المصري تضامنا مع انتفاضة الاقصى عام 2000، ومن ان يطلق العنان للإعلام المصري وللقوى الوطنية لدعم الانتفاضة بلا حدود. وان يرفض عديد من المطالب الاسرائيلية والضغوط الامريكية حول المعبر والأنفاق والمنطقة العازلة.فهل مصر السيسي عام 2018 أضعف واقل حجما وتأثيرا من مصر مبارك عام 2000؟

***

3)  ولقد كانت مصر قادرة حتى فى السنوات التالية لهزيمة 1967 وحتى نصر اكتوبر على حصار (اسرائيل) وقيادة مقاطعة عربية ودولية واسعة لها، امتدت من افريقيا وآسيا الى دول أوروبا الشرقية، كما قامت بدعم المقاومة الفلسطينية بلا حدود، و قيادة الموقف الرسمى العربى فى اتجاه مواصلة القتال، وعلى عزل اى صوت عربى يدعو الى السلام مع العدو، مثلما فعلت مع الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة.

فهل مصر المنتصرة اصبحت بعد 45 عام من نصر 1973 أضعف واصغر واقل تأثيرا من مصر المهزومة عام 1967؟

انك بذلك انما تقر وتعترف وتقدم شهادة خطيرة الى الشعوب والى التاريخ، وهى أن 40 عاما من السلام مع (اسرائيل) ومن كامب ديفيد، قد أضعفت مصر وكسرتها وجعلتها فى حالة بائسة لا تقوى ولا تقدر معها ان تقول لا. وهى الحقيقة التى هَرِمت القوى الوطنية وهى تنبه اليها وتحذر منها لعقود طويلة.

***

4)  وقد يرد انصارك بان الفوضى التى صنعتها ثورة يناير قد اضعفت مصر وانهكتها وافقدتها مكانتها الاقليمية والدولية.

وهو كلام يجانبه الصواب على طول الخط، ففى ذروة اسابيع الثورة الاولى، استطاع الشباب الثائر ان يجبر (اسرائيل) على التوقف عن عدوانها على غزة الذى وقع فى ابريل 2011 ،بعد ان حاصر السفارة ودفع المجلس العسكرى الى ابلاغ قادة الكيان بضرورة وقف العدوان فورا، لانه لم يعد له سيطرة على الشارع المصرى وجماهيره الغاضبة، وهو ما تكرر مرة أخرى فى سبتمبر 2011 بعد قتل الصهاينة لخمسة عسكريين مصريين على الحدود.

***

5)  ثم ان فى رسالتك عن “عجز مصر”، ترويجا ضمنيا الى أن دولا مثل ايران وتركيا أصبحتا أقوى وأكبر وأكثر تأثيرا من مصر فى الاقليم، رغم ان القضية الفلسطينية هى قضية عربية بالاساس، تخص مصر وتمسها اكثر من كل دول الجوار الجغرافى من غير الدول العربية، فنحن رمانة الميزان فى هذا الصراع وفى مواجهة كل الحملات الاستعمارية منذ قرون طويلة، فاذا بك تتخلى بكل بساطة عن راية القيادة، ليتلقفها من يروجون للمشروع والنفوذ الايرانى او التركى فى المنطقة.

***

6)  ثم ان الدولة المصرية تشتبك وتتفاعل و تتصدى بكل امكانياتها ومؤسساتها مع كل ما يدور فى ليبيا، فهى تدعم الجيش الليبى سياسيا وعسكريا ودوليا، وتشن ضربات جوية على الجماعات الارهابية التى تعتدى على السيادة المصرية وعلى المواطنين المصريين هناك، ولم تنأى بنفسها عن المشهد الليبى بذريعة اننا لا نزال دولة ضعيفة بلا تأثير. فما الفرق بين الامن القومى المصرى على حدودنا الغربية وبينه على الحدود الشرقية؟

***

7)  ثم ماذا عن مقولتك الشهيرة عن “مسافة السكة” وان امن السعودية والخليج خط احمر، لماذا لم تطبق عليها قاعدة ان مصر أضعف من ان يكون لها تاثيرا؟

ما السبب وراء تعدد المكاييل واختلاف السياسات والتوجهات حين يتعلق الامر بفلسطين؟ هل هو الحرص على الانخراط فى المصالح والترتيبات والتحالفات الامنية التى تباركها الولايات، وتجنب تلك التى تغضبها هى و(اسرائيل)؟

***

8)  نعم ان مصر كبيرة وقوية وقادرة، ولكن حتى لو لم تكن كذلك، فانها أمور لا تقال أو ينطق بها فى تصريحات عامة وعلانية وكأننا نقول للدول الكبرى والاقليمية وحلفائها من الاعداء والخصوم والمتربصين والمنافسين: “ان افعلوا ما بدا لكم فنحن لا حول لنا ولا قوة، لن نستطيع ان نعارضكم، او نقف فى طريقكم أو نتصدى لخططكم ومشروعاتكم!”

وهى الرسالة التى سيكون لها آثارا مدمرة و بالغة السوء على الملفات والقضايا التى تهدد المصالح المصرية العليا وامنها القومى، مثل ملف سد النهضة فى اثيوبيا، وملف الابتلاع الصهيونى للقدس ولما تبقى من ارض فلسطين.

***

9)  كما انك تتحدث طول الوقت عن السلام الدافئ الذى اصبح فى وجدان المصريين وعن الثقة والطمأنينة الحالية بين مصر و(اسرائيل)…الخ

ولو كان ذلك صحيحا، لاحترمته (اسرائيل) وعملت لعلاقاتنا معها الف حساب، ولما تجاهلت مواقفنا وتمادت فى احراج الدولة المصرية ومؤسساتها امام شعبها، ولقدمت شيئا ذو قيمة للفلسطينيين، ولكفت عن بناء مزيد من المستوطنات وابتلاع مزيد من الارض واسقاط مزيد من الشهداء ولامتنعت عن ضم القدس…الخ

ولكن ما نراه عكس ذلك على طول الخط، فهم لا يقيمون اى وزن لاى علاقات مع مصر، ليثبتوا كل يوم بانه ليس سلاما دافئا ولا يحزنون وانما كما نؤكد دائما هو “سلام  بالاكراه.”

***

10)       واخيرا وليس آخرا، لا يمكن انهاء هذه السطور بدون الاجابة على سؤال المقال وهو: “هل تستطيع مصر بظروفها الحالية، ان تفعل شيئا لفلسطين، وما هو؟

والاجابة هى: بالطبع تستطيع.

ولن اقول لكم قوموا بقطع العلاقات، وإلغاء المعاهدات، وتعبئة الجيوش، ولكننى سأطرح عينة بسيطة مما يمكن ان تتخذه السلطة المصرية حتى وهى مكبلة بقيود كامب ديفيد:

تستطيع ان تسحب السفراء وتعلق التنسيق الأمني والعسكري وتبرد العلاقات وتجمد التطبيع أو تقيده وترفض احتفالهم بذكرى النكبة فى وسط القاهرة، وتنسحب من صفقة استيراد الغاز ومن اتفاقية الكويز وان تتوقف عن القيام بدور العراب للتطبيع العربى الاسرائيلى، بل تعمل على اجهاضه أو تعويقه، وان تفتح المعبر وتفك الحصار، وتقود الحملات العربية والدولية للضغط على اسرائيل فى كافة المنابر والمؤسسات الدولية والدبلوماسية، وان تدعم المقاومة سرا اذا لم تجرؤ على ذلك علانية، وان تطلق يد القوى الوطنية المصرية المناهضة لاسرائيل وان تفتح لها المجال الاعلامى والسياسى، وأن تعيد تشكيل علاقاتنا وتحالفاتنا الخارجية على اساس التصدى للتوسع والتجبر الاسرائيلى وابتلاع ما تبقى من فلسطين.

أما عن كيفية الرد والتصدى للقرار الأمريكى فلقد سبق أن تناولناه فى مقال سابق بعنوان “هل تستطيع مصر أن تقول لا؟”.

***

ان مصر كبيرة بشعبها وتاريخها وموقعها ومكانتها وهويتها وتجاربها ومعاركها، وقادرة لو امتلكت الارادة على فعل الكثير، فحافظوا على كرامتها ولا تستهينوا بها ولا تقللوا من شانها.

*****

القاهرة فى 21 مايو 2018

[email protected]

 

 كلمة عبد الفتاح السيسى

 

محمد سيف الدولة

محمد عصمت سيف الدولة مؤسس حركة مصريون ضد الصهيونية، والمتخصص في الصراع العربي الصهيوني واتفاقيات كامب ديفيد، ومن أبرز المعارضين لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وما اقترن بها من تبعية مصرية للولايات المتحدة الأمريكية. له العديد من المحاضرات والكتابات في العلاقات المصرية الإسرائيلية والأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *