تحاليل و تقارير ساخنه

الإنجيليّون في أميركا.. قوّتهم السياسية ودعمُهم لإسرائيل.. وعن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة

السفير مسعود المعلوف*

(محاضرة في ندوة “مركز الحوار العربي” يوم الأربعاء 25-4-2018)

 

اسمحوا لي أن أبدأ بتوضيحين ضروريين:

1- عندما أتحدث عن الإنجيليين، أقصد بذلك بعض المنتمين الى الطائفة البروتستانتية وليس جميعهم كما سأبين لاحقا، إذ أن بعض البلاد العربية، ومن بينها لبنان، يطلق تسمية الإنجيليين على أبناء الطائفة البروتستانتية جميعا، في حين أن ما يعرف بالإنجيليين في الولايات المتحدة هم فئة من البروتستانت الذين يتألفون من فئات عديدة.

2- حديثي عن الإنجيليين هذا المساء ليس حديثا دينيا على الإطلاق، بل إني أتناول الموضوع من حيث مواقفهم السياسية عامة دون الإعراب، لا من قريب ولا من بعيد، عن رأيي في النواحي الدينية والإيمانية لأبناء هذه الطائفة.

تُعتبر الولايات المتّحدة دولةً مسيحيّةً بصورة عامة، إذ يُشكّل المسيحيّون فيها من مختلف المذاهب أكثر من 70% من مجموع السكان، من بينهم 46% من البروتستانت ونحو 21% من الكاثوليك وما يقارب 3% من مذاهب مسيحية متنوّعة. ويُشكّل مجموع السكان الذين ينتمون الى ديانات غير مسيحية (يهود ومسلمون وبوذيون وهندوس الخ…) ما يوازي نحو 6%، أمّا الباقون أي نحو 24% من مجموع السكان، فهم يعلنون عدم انتمائهم الى أيّ ديانة، وهذا لا يعني بالضرورة أنهم ملحدون، بل لا يعتنقون ديانة معينة.

الإنجيليّون الذين كثُر الحديث عنهم في العقود الأربعة الأخيرة وعن تأثيرهم في الحياة السياسية الأميركية وعن دعمهم شبه المطلق لإسرائيل، هم مجموعة من المذاهب البروتستانتية التقليدية التي تؤمن بجوهر الإنجيل وبأنّ خلاص البشرية يأتي عبر الإيمان الصافي بالمسيح المخلّص، وهم يشكّلون أكثرَ من نصف مجموع السكان البروتستانت (نحو 26% من الأميركيّين)، بينما سائر المذاهب البروتستانتية هي من المذاهب التي تؤمن بالحداثة والتجدّد.

عندما بدأت بعض المذاهب البروتستانتية تتأثّر بأفكارٍ لتحديث العقيدة وجعلها تتماشى مع تطوّرات العصر، تمسَّك المنتمون الى مذاهب بروتستانتية أخرى بالتقاليد الدينية كما جاءت في الإنجيل وفي العهد القديم من الكتاب المقدّس، فعُرفوا بالإنجيليّين.

وقد أسَّسوا عام 1942 «الجمعية الوطنية للإنجيليين» التي بدأت تفتح المدارس في مختلف الولايات الأميركية، خصوصاً في الولايات الجنوبية والوسطى حيث لهم وجود بارز، وكانت هذه المدارس تنشر التعاليم الدينية وفقاً لأصول الدين المسيحي، ولذلك يُمكن اعتبارُهم الى حد ما «أصوليّين مسيحيين».

في العام 1973، وبعد انقسامات وخلافات حادّة في المجتمع الأميركي حول موضوع الإجهاض، اتّخذت المحكمة العليا قراراً يَقضي بالسماح قانونًا بالإجهاض، فتحرّك الإنجيليون بقوة لمناهضة هذا القرار الذي يتنافى مع إيمانهم المسيحي، وبدأوا بتنظيم تحرّكات، واتّخاذ مواقف سياسية مبنيّة على عقيدتهم وإييمانهم، وقدّموا بعد ذلك دعمَهم الكامل لترشيح الجمهوري المحافظ رونالد ريغن للرئاسة عام 1980 ، وجدّدوا دعمهم له عام 1984 ، وعزّزوا انتماءَهم الى الحزب الجمهوري، وبدأ شأنهم يقوى في الحياة السياسية الأميركية منذ تلك الفترة.

وممّا ساعد في إعطائهم المزيد من القوة والتأثير في الحياة السياسية، بروز واعظين في صفوفهم ممَّن يتمتّعون بمواهب خطابية كبرى استطاعوا استعمال وسائل التواصل الحديثة نسبياً في ذلك الوقت، مثل الراديو والتلفزيون، لإلقاء عظاتهم الدورية التي كانت تجذب ملايين المشاهدين والمستمعين، كما تملّكوا قنواتٍ تلفزيونيةٍ ومحطاتٍ إذاعية خاصة بهم، ومن أبرزهم جيري فالويل وبات روبرتسون وبيلي غراهام الذي أصبح بمثابة المرشد الروحي لعدد من الرؤساء.

فالإنجيليون إذن يشكلون نحو ربع السكان في أميركا، وهم مجموعة من المذاهب البروتستانتية «الأصولية» التي تبني عقيدتَها على الإنجيل، بخلاف بقية المذاهب البروتستانتية المنفتحة على التطوّر الفكري الإيماني، وهم بأكثريّتهم ينتمون الى الحزب الجمهوري، وقد ساهموا مساهمةً كبرى في إيصال الرئيس دونالد ترامب الى البيت الأبيض عبر إعطائه 81% من أصوات الإنجيليين البيض في انتخابات 2016.

جدير أيضاً بالإشارة الى أنّ للإنجيليين نزعةً تبشيرية، إذ إنّ نشرَ الدين المسيحي وفق إيمانهم الإنجيلي هو أيضاً من اهتماماتهم وواجباتهم، وهذا ما يُفسّر انتقالَ العديد من المبشّرين الى العراق بالتزامن مع الحرب التي شنّها الرئيس الأسبق جورج بوش على هذا البلد عام 2003 حيث كانوا يعتزمون القيامَ بنشاطهم التبشيري.

ومن منطلق اتّباعهم الحرفي لنصوص الكتاب المقدس وإيمانهم بمندرجاته، يرى الإنجيليون في قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للتنبّؤات الواردة في هذا الكتاب، خصوصاً لجهة قرب نهاية العالم، بعد أن يحتلّ اليهود القدس مجدّداً، إذ سيلي ذلك قبولُهم بتعاليم المسيح الإلهية الذي سيعود ثانيةً ليخلّص البشرية جمعاء من الخطايا.

نحو 60% من الإنجيليين يؤمنون بصدق أنّ إسرائيل أُنشئت وفقاً لما ورد في الكتاب المقدّس من تنبّؤات كما أنّهم يعتبرون أنّ هنالك علاقةً خاصة قائمة بين الله وإسرائيل.

لقد صدرت كتبٌ دراسية عدّة حول هذه الموضوعات الدينية التي يتمّ تدريسُها في الجامعات والمدارس التي أسَّسها أو يدعمها إنجيليون، كما أصبحت الدراسات الدينية واللاهوتية مادةً إلزامية في البرامج التعليمية لهذه المؤسسات.

إنّ دعمَ ومساعدةَ وتأييدَ إسرائيل عند قسم كبير من الإنجيليين هو بالتالي أمرٌ دينيٌّ لاهوتي قبل أن يكون موقفاً سياسياً، و82% من الإنجيليّين البيض الذين يشكّلون ثلاثة أرباع الإنجيليين يؤمنون أنّ الله قد وهب إسرائيل للشعب اليهودي، ولذلك ليس من المستغرَب ان نرى قسماً ملحوظاً من الإنجيليّين الأميركيين يؤيّدون ويدعمون إسرائيل أكثر من بعض اليهود الأميركيين.

لا بد من التذكير هنا أنّ نائب الرئيس الأميركي حالياً مايك بنس، الذي وُلد وترعرع في أحضان عائلة إيرلندية كاثوليكية، وكان يحضر ويخدم القداس بصورة شبه يومية في صغره، غيّر مذهبه واعتنق الإنجيلية قبل أن يبلغ العشرين من العمر، وأصبح من غلاة هذا المذهب، لدرجة أنّ كثيرين يعتقدون أنه قد أثر تأثيراً كبيراً على ترامب لاتّخاذ قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس في السادس من كانون الأول من العام الماضي، وذلك انطلاقاً من اتّباعه الجدّي للكتاب المقدس.

فالتأييدُ لدولة إسرائيل موجودٌ عند الإنجيليين حتى قبل قيام تلك الدولة، وقد ذكر نائبُ الرئيس مايك بنس العديد من الآيات والأقوال من الإنجيل والكتاب المقدس في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي أثناء زيارته لإسرائيل منذ أشهر قليلة، وفي ذلك دليلٌ واضحٌ على البعد الديني الإنجيلي الموجود حالياً في البيت الأبيض.

كما أنّ غيابَ التأييد للشعب الفلسطيني وحقوقه القومية، وعدم القبول بقيام دولة فلسطينية، نابعٌ من إيمان بعض الإنجيليّين بأنّ أرضَ الميعاد للشعب اليهودي تمتدّ من نهر الأردن وصولاً الى البحر الأبيض المتوسّط، بما في ذلك الضفة الغربية، وأنّ هذه الأرض بكاملها قد وعد الله الشعبَ اليهودي بها.

الإسرائيليون يدركون جيداً موقفَ الإنجيليين تجاه إسرائيل والشعب اليهودي، وهم يحاولون استغلالَ هذا الشعور الديني لتحقيق مكاسب سياسية لصالح إسرائيل، وقد أعرب وزير التربية الإسرائيلي نفتالي بينيت عن سروره وارتياحه للعلاقة القائمة بين الإنجيليين الأميركيين وإسرائيل، موضحاً أنّ في ذلك فرصةً لإسرائيل “علينا استغلالُها لتأمين مصالح دولتنا وأمنها”.

غير أنّ استقصاءاتِ الرأي الحديثة تشير الى أنّ هذا التأييدَ القويّ لإسرائيل بدأ يضعف عند الإنجيليين الشباب الذين لم يبلغوا بعد سنّ الخامسة والثلاثين، إذ إنّ 35% من هذه الفئة ليس لها موقف إيجابي من إسرائيل، و66% منهم يرون أنّه من الضروري إيلاء الشعب الفلسطيني مزيداً من الإهتمام.

وقد لاحظ الإسرائيليون هذا المنحى الشبابي الذي قد يتطوّر وينمو، ولذلك فهم بدأوا يتوجّهون نحو دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا حيث الوجود الإنجيلي يتطوّر ويتعزَّز بسرعة، آملين بذلك التعويض سلفاً عمّا قد يلحق بإسرائيل من نقص في التأييد عند الإنجيليين الأميركيين في حال استمرار هذا التوجّه الأميركي عند الأجيال الصاعدة.

وإذا كان الإنجيليون بمعظمهم يرون في التأييد الأميركي القوي جداً لإسرائيل، والذي تجسَّد أخيراً بقرار نقل السفارة الأميركية الى القدس، إرادةً إلهيةً تتحقَّق شيئاً فشيئاً، فإنّ السياسيين في واشنطن لا يرون في ذلك إلّا تمسّكاً من ترامب بإظهار نفسه أنّه الرئيس الوحيد الذي يَفي بوعوده الإنتخابية، خلافاً لما كان يفعله أسلافُه.

إلّا أنّ هذه النظرة المتباينة لا تغيّر شيئاً في الواقع الذي هو واضح للجميع، وهو أنّ الإنجيليين الأميركيّين قد أصبح لهم شأن قوي في الحياة السياسية بحيث يسعى المرشحون لمختلف المناصب الى كسب تأييدهم كما أنهم، لأسباب دينية لاهوتية بحتة، من غلاة المؤيّدين لإسرائيل التي تستغل ذلك لتحقيق مصالحها على الساحة الأميركية.

فالإنجيليون إذا يشكلون دعما قويا للوبي الإسرائيلي الذي سأتحدث عنه الآن.

كلمة «لوبي» الإنكليزية ظهرت في القرن السابع عشر في بريطانيا عندما كان المواطنون يجتمعون في بهو (لوبي) مجلس العموم ليتشاوروا مع ممثليهم في الأمور التي تهمّهم. وباستعمالها السياسي في الولايات المتحدة فيما بعد، أصبحت تَعني السعي للتأثير على سياسة الحكومة وعلى السياسة العامة في البلد. والتعديل الأول للدستور الأميركي عام 1789 الذي يضمن للمواطن حقوقاً في مجالات عديدة، مثل حرية التعبير وحرية المعتقد وغيرها، يضمن أيضاً صراحة حقّ المواطن في تقديم عرائض للحكومة تتضمّن شكاوى ومطالب معيّنة، وهذا الحقّ في تقديم الشكاوى هو أساس النشاط للتأثير على سياسة الحكومة عموماً الذي يُسمى الآن لوبي.

ومن أجل أن يكون التأثير فعّالاً، لا بد من تنظيم هذا النشاط عبر تأسيس جمعيات متخصّصة تتولّى كل منها مصالح المجموعة التي تمثلها، وتستعين بخبراء ضالعين في الشؤون القانونية والدستورية يدافعون عن هذه المصالح أمام السياسيين، مثلما يدافع المحامي عن مصلحة موكله أمام القاضي والمحكمة.

الجمعيات التي تمثل اهتمامات المواطنين في الولايات المتحدة تُعدّ بالآلاف، منها ما يُعنى بشؤون المتقاعدين مثلاً، أو المزارعين على اختلاف منتجاتهم، أو أصحاب الصناعات المختلفة، ومن التجمّعات القوية جداً اللوبي الذي يُمثّل صناعة الأدوية، أو أيضاً لوبي صناعة الأسلحة، الذي يُعدّ أقوى مجموعة ضغط (لوبي) في أميركا.

ومنها ما يُعنى بسياسة الولايات المتّحدة الخارجية، مثل اللوبي الأميركي- اليوناني، أو اللوبي الأميركي- الأرمني على سبيل المثال، وهذه تُعتبر مجموعات ضغط إثنية، إذ إنّ مؤسّسيها لهم جذور في هذه الدول، ويسعون الى تعزيز علاقات الولايات المتحدة مع دولهم الأصل.

وإذا كان لوبي صناعة الأسلحة أقوى لوبي في مجال المصالح الإنتاجية الداخلية، فإنّ اللوبي الإسرائيلي يُشكّل أقوى وأفعل لوبي على الإطلاق بين مجموعات الضغط الإثنية.

وعندما يُقال اللوبي الإسرائيلي، فإنّ أوّل ما يتبادر الى الذهن هو منظمة «أيباك»، المعروفة بما لها من تأثير على أعضاء الكونغرس، بينما في الواقع هناك عدد كبير من المنظمات والمؤسسات ومجموعات الضغط اليهودية- الأميركية المختلفة، التي تمارس نشاطات متنوّعة، وعلى مستويات متعددة، تصبّ كلّها في خانة الضغط على السياسة الأميركية الخارجية بغية دعم إسرائيل باستمرار، وتأمين أقصى قدر ممكن من المساعدة المالية والعسكرية والسياسية لها.
فيما يلي شرح مختصر جداً لأهمّ هذه المؤسّسات وطريقة عملها.

1 – أيباك التي تعمل على مستوى الكونغرس

كلمة أيباك هي مختصر للأحرف الأولى من إسم هذه المجموعة باللغة الإنكليزية: «اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة». وكثيرون يصفون أيباك باللوبي الصهيوني وليس في ذلك خطأ، إذ إنّه في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، تمّ تأسيس منظمة بإسم «اللجنة الأميركية- الصهيونية للشؤون العامة» وبعد سنوات من تأسيسها وتجنّباً لبعض الصعوبات، قرّرت هذه المنظمة تغيير اسمها وأصبحت تُعرف بالتسمية الحالية.

أيباك، التي تعدّ نحو 100,000 عضو، تركّز نشاطها بصورة خاصة على الكونغرس، الذي يصدر القوانين، ويراقب عمل الحكومة، وذلك في سبيل تأمين أكبر قدر ممكن من الدعم والمساعدات لإسرائيل.

تضمّ أيباك آلاف المتموّلين الأغنياء وكبار الشخصيات من اليهود الأميركيين ونشاطُها منظَّم بشكل دقيق للغاية ويتمّ عبر التحرّكات التالية:

  • إتّصالات مستمرّة بأعضاء الكونغرس، في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ومساعديهم الذين لهم أهمية كبرى في صياغة مشاريع القوانين، لنقل وجهة النظر الإسرائيلية من مختلف التطورات في الشرق الأوسط، والسعي الى إقناعهم بتطابق المصالح الأميركية والإسرائيلية.
  • تنظيم حملات عبر رسائل خطية وإلكترونية واتّصالات هاتفية من قبل آلاف المواطنين، لحضّ أعضاء الكونغرس على اتّخاذ القرار المناسب لإسرائيل في كل مرة تكون هنالك حاجة لذلك.
  • الإجتماع مع كل مرشح على حدة لأيّ منصب، ليس فقط في الكونغرس، بل أيضاً على صعيد الإدارات المحلية، لشرح قضية الشرق الأوسط من وجهة النظر الإسرائيلية، وصولاً الى الطلب من كلّ مرشّح تقديم تصوّر خطي لكيفية دعمه لإسرائيل في حال فوزه، ويتمّ اتّخاذ القرار بدعم هذا المرشح أو ذاك، أو محاربته، في ضوء موقفه المعلن من إسرائيل.
  • بما أنّ المال يلعب دوراً كبيراً في كلّ الحملات الإنتخابية، وإن ضمن قوانين وأنظمة واضحة، وبما أنّ منظمة أيباك لا يحقّ لها قانوناً تمويل حملاتٍ إنتخابية، فهي توعز لأعضائها بتقديم الدعم المالي للمرشحين الأكثر تأييداً لإسرائيل، ولمحاربة أخصامهم، ولذلك نرى المرشحين يتنافسون في إعلان مدى تأييدهم لإسرائيل للحصول على الدعم المالي لحملاتهم. وهذا الوضع يظهر بشكل واضح وفاضح في الإنتخابات الرئاسية.
  • وبما أنّ اليهود الأميركيين هم أكثر مجموعة إثنية إهتماماً بالأمور السياسية وبالانتخابات على الساحة الأميركية، فإنه من السهل على أيباك تجنيدهم في هذا الإتجاه أو ذاك، بحيث يستطيعون أحياناً كثيرة قلب الموازين الإنتخابية في اتّجاه أو في آخر. ومن أشهر ما حصل في هذا المجال المحاربة الشرسة لعضو مجلس النواب بول فيندلي عام 1982 وإسقاطه بسبب مواقفه المناهضة لإسرائيل، ولعضو مجلس الشيوخ شارلز بيرسي الذي صوّت الى جانب إعطاء المملكة العربية السعودية طائرات أواكس فحاربه اللوبي وأسقطه عام 1985 رغم إشعاعه السياسي، وحظوظه آنذاك في الترشّح للرئاسة.
  • دعوة عشرات أعضاء الكونغرس دورياً الى إسرائيل، مع تحمّل أيباك كلّ نفقاتهم، في زيارات تُسمى دراسية، بغية «تثقيفهم» وتلقينهم المواقف عبر جعلهم يشاهدون، حسب أيباك طبعاً، التحدّيات التي تواجهها إسرائيل والمخاطر التي تتعرّض لها، وضرورة مدِّها بالأسلحة والمال لمواجهة تلك التحدّيات والمخاطر، كما يهتمون بنقلهم الى البرلمان لمشاهدة ما تمارسه إسرائيل من ديموقراطية في مقابل ما هو قائم في الدول العربية.
  • تنظيم مؤتمر سنويّ ضخم يحضره أحياناً الرئيس الأميركي أو نائب الرئيس والمسؤولون الكبار من وزراء وأعضاء في الكونغرس ومرشحون، عندما يتزامن المؤتمر مع الإنتخابات، كما يأتي أحياناً رئيس وزراء إسرائيل، فيتبارى المشاركون في إظهار تأييدهم ودعمهم لهذه الدولة. عام 2016 حضر المؤتمر ما لا يقلّ عن 20,000 شخص.

وإذا كانت أيباك تستطيع تحقيق مثل هذا النجاح في تأثيرها على الكونغرس الأميركي، فإنّ ذلك يعود لحسن ودقة تنطيم عملها، ولاهتمام أعضائها ومعظم اليهود الأميركيين بالعمل السياسي، واستعدادهم للتبرّع بسخاء للذين يدعمون القضية التي تهمّهم، بينما لا نرى ذلك على صعيد الجالية العربية، رغم وفرة عددها ومكانتها المالية.

تشير إحصاءات «مركز التجاوب السياسي» أنّ أيباك أنفقت على الإنتخابات الأميركية بين عامي 1990 و2006 مبلغ 56,8 مليون دولار، بينما المنظمات العربية مجتمعة لم يتجاوز إنفاقها في الفترة نفسها 800,000 دولار.

في كتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية» للمؤلفَين جون مورشايمر وستيفن والت، يُذكر كيف أنّ أحد المسؤولين السابقين في أيباك، ستيفن روزن، أمسك مرّةً منديلاً بيده وقال، متباهياً بالقوة التي تتمتع بها أيباك: «في مهلة 24 ساعة، أستطيع أن أحصل على توقيع 70 عضواً من مجلس الشيوخ على هذا المنديل». (علماً أنّ مجلس الشيوخ يضمّ 100 عضو).

2 – العمل على مستوى السلطة التنفيذية

هنالك أيضاً مؤسسات يهودية أميركية عدة تتولّى التعاطي مع الإدارة بصورة خاصة، وأهم هذه المؤسسات «مؤتمر رؤساء كبار المؤسسات اليهودية الأميركية». تأسّست هذه المنظمة عام 1956 بمسعى من الرئيس أيزنهاور، إذ كانت تتواجد على الساحة الأميركية عشرات المنظمات اليهودية التي تمثّل تيارات مختلفة، وكان أيزنهاور يفضل التعاطي مع مؤسسة واحدة تستطيع التحدث باسم الجميع، للتشاور معها في القضايا الهامة للبلاد.

يضمّ المؤتمر 51 منظمة وطنية يهودية وأهدافه هي أهداف أيباك نفسها مع اهتمام أكبر بشؤون الجالية اليهودية، وهو يعمل بالتنسيق التام مع أيباك عبر توزيع النشاطات، فالمؤتمر يتعاطى مع المسؤولين في السلطة التنفيذية، بينما أيباك تركّز جهودها على الكونغرس.

3 – مراكز الأبحاث والدراسات

لمراكز الأبحاث أهمية خاصة على الساحة الأميركية، إذ غالباً ما يستعين بدراساتها الرؤساء ووزراء الخارجية والمسؤولون الكبار، ومعروف أنّ كلاً من هذه المؤسسات تمثل تياراً سياسياً معيناً، فمؤسّسة التراث الأميركي مثلاً قريبة من الحزب الجمهوري في توجهاته المحافظة، كما أنها مؤيدة لإسرائيل، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، هي مؤسسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الإسرائيلية، ومعهد الشرق الأوسط ليس منحازا كليا لإسرائيل، كما أنّ هنالك مئات من المؤسسات والمراكز الأخرى.

فاللوبي الإسرائيلي، الذي تشكل أيباك ضلعاً قوياً من ضلوعه، لا يعمل فقط على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل له أيضاً وجود فاعل في مراكز الدراسات الكبرى.

تأسس «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» عام 1985 على يد مسؤول أيباك السابق ستيفن روزن الذي يتباهى بالحصول على تواقيع أعضاء مجلس الشيوخ على منديله، وقد عاونه في ذلك مسؤول آخر من أيباك هو مارتن إيندك الذي أصبح عام 1993 مستشار الرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأوسط، وفيما بعد سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل.

هنالك أيضاً مراكز أبحاث عديدة أخرى تدين بالولاء لإسرائيل، من بينها مثلاً «مركز صابان لسياسة الشرق الأوسط» التابع لمؤسسة بروكنغز الشهيرة، والذي أُنشئ عام 2002 بواسطة منحة بقيمة 13 مليون دولار أميركي قدّمها حاييم صابان، واصفاً نفسه بـ«أنا رجل عندي قضية واحدة هي إسرائيل».

وكذلك «المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي» المعروف بارتباطه بحزب الليكود اليميني المتطرّف، والذي يضمّ في مجلس إدارته بعضاً من غلاة المحافظين الأميركيين المؤيّدين لإسرائيل، أمثال ريتشارد تشيني (نائب الرئيس بوش)، وجون بولتون، ودوغلاس فايث، وبول ولفوويتز، وإيليوت أبرامز، وسواهم.

4 – على مستوى الإعلام

يجيد المؤيّدون لإسرائيل في الولايات المتحدة استعمال وسائل الإعلام للتأثير على الرأي العام عبر نشر مواقفهم، ونقض أيِّ مواقف مناهضة لإسرائيل، وقد جمعوا مبالغ ضخمة من الجاليات اليهودية لشراء وإنشاء مؤسسات إعلامية خاضعة لهم، لدرجة أنّ هيمنتهم على قطاع الإعلام في الولايات المتحدة أصبحت معروفة عالمياً، وقد باتت بعض وسائل الإعلام التقليدية تمارس رقابة ذاتية على ما تنشره كي لا تبدو وكأنها معادية لإسرائيل.

في هذا الإطار، صرّح ناطق سابق بلسان القنصلية الإسرائيلية في نيويورك بأنّ «الصحافيين والمحرّرين والسياسيين سيفكّرون ملياً قبل توجيه النقد لإسرائيل، إذ يعلمون أنهم سيتلقون آلاف الإتصالات الغاضبة في ظرف ساعات قليلة… واللوبي الإسرائيلي يعرف جيّداً كيف ينظم ضغطه» (الصفحة 172 من كتاب مورشايمر وولت المذكور أعلاه).

ومع تطوّر الإتصالات عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، زاد طبعاً النشاط الإعلامي الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي بجميع فروعه.

5 – الجامعات

تنشط أيضاً بعض المنظمات اليهودية الأميركية في الجامعات حيث تسعى الى ترويج مواقف مؤيّدة لإسرائيل، وممارسة ضغوط بوسائل شتى على الطلاب الذين لديهم ميول غير داعمة لإسرائيل، كما يتمّ أحياناً تنظيم رحلات دراسية و«تثقيفية» الى إسرائيل لعدد من الطلاب، في سبيل كسب تأييدهم لوجهة النظر الإسرائيلية.

وإذا كان اللوبي الإسرائيلي يُحقّق نجاحات بارزة على صعيد إيصال مؤيّدين لإسرائيل الى الكونغرس، وحمل الإدارة على تقوية وتعزيز علاقاتها مع الدولة العبرية، والتمكّن من إصدار قانون يجعل مقاطعة إسرائيل عملاً جرمياً وغير ذلك من الأمور، فهذا لا يعني أنّ اللوبي قد نجح في كلّ مساعيه.

ففي أيام الرئيس باراك أوباما، حارب اللوبي تعيين شارلز هيغل وزيراً للدفاع بسبب قربه من العرب وفشل، وحاول عرقلة المساعي الأميركية في عقد الإتّفاق النووي مع إيران عبر دعوة نتنياهو لإلقاء كلمة في الكونغرس بدون التنسيق مع البيت الأبيض وفشل، هنا أيضاً رغم الإستقبال الحارّ الذي لقيه نتنياهو من أعضاء الكونغرس.

من جهة ثانية، تم تأسيس منظمة يهودية – أميركية غير مؤيدة لحزب الليكود الإسرائيلي وتدعم حل الدولتين، وهي منظمة “جي ستريت” التي تحتفل اليوم بالذكرى العاشرة لتأسيسها، وقد أصبح لها بعض الشأن على الساحة السياسية الأميركية وهي تسعى، ولو بصعوبة، الى منافسة أيباك.

لكنّ ذلك لا يُقلّل إطلاقاً من أهمية وفاعلية اللوبي الإسرائيلي على الساحة الأميركية لدرجة أنّ بعض قوى الضغط الإثنية الأخرى تحاول تقليد أيباك، وتسعى الى التعاون معها في سبيل تحقيق بعض النجاح في عملها، من بينها الجالية الهندية والجالية اليونانية على سبيل المثال.

المراجع

– Stanley, Brian (2013), The Global Diffusion of Evangelicalism: The Age of Billy Graham and John Scott.

– Martin, William, With God on our side: The Rise of the Religious Right in America.

– Balmer, Randall, Evangelicalism in America (2016)

– Ed Kilgore, article in the “Daily Intelligencer”: Nobody Likes Trump Except White Evangelicals.

– J.J. Goldberg, Jewish Power, Inside the American Jewish Establishment (1996)

– John J. Mearsheimer and Stephen M.Walt, The Israel Lobby and Foreign Policy (2006)

—————————

* السفير مسعود المعلوف، سفير لبنان السابق في كندا ومقيم حالياً في الولايات المتحدة الأميركية

 

مقال ذو صلة بالموضوع:

لماذا لا يوجد «لوبي عربي» في الغرب؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *